النص الشعري، ولو انه مكتوب للمسرح، صعب الإداء، مشاكس في التطويع، يتحدّى الممثل والمخرج بل هوادة، فكيف لو كان مترجماً ومضغوطاً ومحمولاً على أكتاف طرية؟ لطيفة ملتقى، واحدة من روّاد المسرح اللبناني ومؤسسيه المعاصرين، أخذت على عاتقها ذلك التحدّي الصعب حين قررت في خضم تكريم الراحل جورج شحادة، استعادة مسرحيته الاثيرة "مهاجر بريسبان" لتقدمها مع حفنة من الممثلين الجدد على مسرح مار الياس، انطلياس، ابتداء من مطلع هذا الشهر. وكانت التجربة شهادة اخرى على قيمة الصفاء والخبرة وقوة الاعتقاد بأن الأسس الكلاسيكية تبقى النبع الأوفر عطاء ونضارة، والمنطلق الراسخ الصلب للمسرح الجيّد. اقتبست لطيفة ملتقى "مهاجر بريسبان" في ساعة ونصف متواصلة وأسّست مقاربتها على الجوهري في النص، ومنحت ممثليها افقاً رحباً كي يملأوا الخشبة الخالية الا من ديكور مختزل، بشحنات متواصلة من العواطف العالية، والإنفعالات العارية، الصاخبة. وهكذا انجلت شخصيات "المهاجر..." بقدر ما تجلّت المعاني العميقة ذات الحضور الدائم في حياة البشر خصوصاً المال وأثره على تصرفاتهم. ولجأت لطيفة الى ابتكار شخصية الراوية العجوز لملء الثغرات المختصرة وتحريك عجلة القصة وربط حلقاتها، والمعروف ان شخصية الراوي محببة جداً الى أسلوب ملتقى منذ السنوات السمان الأولى في حلقة المسرح اللبناني". ثلاث نساء متزوجات في مجتمع رعوي، زراعي، فحوليّ النزعة، يجدن انفسهن فجأة مهددات بشرفهن، معرّضات للعار والذلّ لأن الشبهة تحوم حولهنّ: إحداهن ربما حملت سفاحاً قبل ان تتزوج. لكن ذلك السفاح الغائب أتى بثروة مغرية قد تكون من حصة احداهن لو هي أقرّت به وتبنّته. وفيما ترفض النساء الثلاث مجرّد التفكير في الأمر، ويخوض اثنان من الرجال أزمة الشك وعواصف الثأر وينتهيان الى العودة لزوجتيهما، يطلب الثالث من زوجته ان تطأطىء رأسها بصمت ريثما يعترف عنها بأنها ولدت ابناً غير شرعي - لذلك الرجل المهاجر الذي عاد الى القرية ومات قرب نبع الماء من دون ان ينبس ببنت شفة. واذ ترفض الزوجة المؤامرة يقتلها زوجها، ثم يدّعي أنها اعترفت وانه قتلها ثأراً لشرفه. تلك هي الخطوط العريضة للدراما في "مهاجر بريسبان" وضربة السخرية ذات البعد الشكسبيري اننا نكتشف، ببرود قارس كالنصل، ان القصة كلها لم تكن سوى هفوة في النهاية، لأن المهاجر نزل في قرية لم يكن يقصدها، لكن الحوزي الذي أوصله اعتبرها أجمل قرى المنطقة، ومن أجل جمالها "حقّ" له اطلاق كل اسماء القرى عليها... إذاً هو الجمال اولاً وآخراً. جمال النص وجمال الحبكة وجمال المفاجأة وجمال الكون من حولنا، ناهيك عن جمال السيدات الثلاث، ولو انه أفل لدى وقوع احداث المسرحية، الا ن ماضيه هو المحرّك القوي للمشاعر والشكوك والذكريات. وفي اخراجها للمسرحية وطّدت لطيفة ملتقى هذا المضمون الجوهريّ في عمل جورج شحادة ووضعت أمام الجمهور، ما يمكن اعتباره زبدة الزبدة في "مهاجر بريسبان". سلبياً، اسوأ ما في العرض كراسي البلاستيك البيض في القاعة الانحدارية التي كان في الامكان تجهيزها بصورة أفضل، الا ان المسارح المجهزة في لبنان باتت تفضّل اغلاق أبوابها على استقبال أعمال ضئيلة التمويل ولو انها ممتازة في النوعية. وصادف ليلة حضورنا "المهاجر..." بعض أفراد من الجمهور لعلهم اعتقدوا أنهم في منازلهم يتفرجون على التلفزيون، أخذوا راحتهم في الثرثرة بصوت مرتفع، حتى ان واحدة منهم صرّحت عالياً بصوتها المسنون "قتل مرتو عالفاضي!". أخيراً عودة "المهاجر..." الى الملتقى أو عودتهم الى لقاء جمهور المسرح اللبناني نشوة طيبة عساها تستمر ولا تهاجر الى مرارات الواقع من جديد.