تندرج رواية "حمام النسوان" دار المسار، بيروت 1999 للروائي السوري فيصل خرتش في سياق ظاهرة نوعية جديدة في السرد الروائي العربي الحديث، تقوم على ما اصطلح عليه البعض بالواقعية الغرائبية أو الإغرابية الذاتية. وإذا كانت هذه الظاهرة تستثمر في ما تستثمر أساليب السرد الشعبي "العامي" وتقنياته وعوالمه السفلية، استناداً الى ادعاءات وجيهة ببناء شكلٍ خصوصي أو محلي عربي للجنس الروائي، فإن دلالتها العميقة لا تنجلي إلا في فهم انتاجها لعملية "شرقنة الذات" أو "استبطان تنميطات الآخر" التي تحقق وظائف عدة، من أبرزها ما يمكن تسميته بلغة جنين عبوشي دلال ب"الكتابة من أجل الترجمة" أي بكل بساطة "الكتابة من أجل الغرب". وتتغذى هذه الوظائف في اطار صناعة الأدب العالمي في الغرب من سياسات الترجمة واقتصادياتها التي تركز بحكم آليات تسويق السلعة الرمزية المترجمة ومجالاتها التداولية على ترجمة الأعمال الروائية العربية التي تتميز بعوالمها الشرقية "الأصيلة" الخاصة. والتي تحتل مساحة أساسية في المتخيل الغربي عن الشرق، أي في صورته الاستشراقية عنه. لقد شجعت هذه السياسة منذ النجاح التسويقي الباهر في الغرب للواقعية الغرائبية الأميركية الللاتينية، وتزايد وعي الغرب بنسبية أوروبا في العالم، عشرات الروائيين على تكييف عوالمهم الروائية معها، وعيونهم مفتوحة على امكانية الترجمة في سوق صناعة الأدب العالمي في الغرب وتشكل الرواية سلعتها الأولى. غير أن رواية "حمام النسوان" ليست إلا من هذا النوع الذي يتكيف مع تلك السياسات، وكأنها تسخّر العالم الروائي بكل بساطة من أجلها. إذ تقوم كما يمكن أن يوحي به عنوانها "الشرقي" و"الأصيل" على محاكاة ساخرة للتقاليد والأعراف الجنسية والثقافية للمرأة العربية ممثلة بنمط "الحريم" وفضاءاته الشرقية "المغلقة"، بل ان صورة اليهودي فيها تلبي حاجة حساسة من حاجات سياسات الترجمة واهتمامها بثقافة الأقليات ومصائرها في منطقة شهدت صراعاً ممتداً ما بين العرب واسرائيل. تحكي الرواية قصة صبي يسمي نفسه "زاد الله"، يطير به ملاك غيبي من المجهول، ويرميه في مدينة حلب، حيث تتلقفه أم مطر التي تعمل في تنظيف حمامات النسوان، وتتبناه مقابل مرافقة ابنها مطر الزمان في أزقة المدينة وأسواقها، وحمايته من عبث الصبية. تبدأ مغامرة زاد الله في القاع السفلي للمدينة من هذه اللحظة. تأخذ هذه المغامرة تقنياً شكلاً بات شائعاً في الأساليب السردية العربية المعاصرة هو الشكل الحكائي، ويمثل فيه الصبي زاد الله الذي حُطَّ به في المدينة دور الراوي الذي يرتد في الواقع الى الكاتب نفسه كذات ثانية. وتحاول الرواية مبدئياً في نوع من "تغريب" لكنه هش هنا أن تميز ما بين الراوي زاد الله وبين المغامرة التي يرويها. إلا أن هذا التمييز سرعان ما يتبدد لتكون أمام نوعٍ من زمن دائري تتعمده الرواية من خلال مزجها بين الواقع والخيال، واكسابها المكان صفات عجائبية وأسطورية ما ورائية تتخطى أشكاله الهندسية الإقليدية. ويعني ذلك في إطار الواقعية الغرائبية التي تقوم عليه أسلوبية الرواية أن الراوي يقوم بإغرابية ذاتية لنفسه في سياق ما يرويه. ليست المشكلة هنا بتاتاً في استثمار تقنيات الواقعية الغرائبية، ومزجها بالتقاليد الحكائية بل في تمثيليتها الحضارية التي تتنمط في اطار المتخيل الاستشراقي عن النفاق الأخلاقي والروحي المتأصل في التقاليد المدينية التي تشكل احد أبرز مداخل الفهم الاستشراقي للشرق. ويتضافر المستويان الغرائبي والواقعي في الرواية كي يكشف خطوة فخطوة عن مظاهر هذا النفاق والكذب. فيحرص مثلاً أبو مطر المهرب والقاسي القلب والأفَّاق والعديم الأخلاق على التقاليد المتبعة. ويؤسطر الروائي هنا الواقع بقدر ما يضفي خصائص واقعية على أسطورته العجائبية. بكلام آخر ان مطر الزمان الذي يمثل دور البهلول والانسان الذي "على البركة"، ويقرأ المستور، ويفعل "العجايب" في شفاء الأمراض وحل مشكلة الإنجاب عند "الحريم" هو روائياً شخصية عجائبية وتخييلية في آنٍ واحد. انه شخصية عجائبية من حيث قدرته الذكورية الخرافية وتخييلية من حيث أن بعض صفاته توهم بواقعيتها أو احتماليتها. وتترسخ هويته العجائبية حين يؤدي دور "الجني" في حمام النسوان، ويضاجع احد نماذج "الحريم" بالشهوانية "الشرقية" المزعومة التي يتحدث عنها المتخيل الاستشراقي، ويتقلص إبان مرضه الى كائن في حجم قبضة يد توضع مثل أي عصفور في قفص من دون أن تتقلص قدرته الذكورية، وطلب "الحريم" عليها، في حين يستثمر أبوه هذه القدرة المسلحة بإرادة مزعومة لجني الثروة منها. وكل ما يقوله لنا الراوي عن "العجايب" المنسوبة الى شقيقه بالتبني مطر الزمان أنها كذب ونفاق، وستار تشبع فيه "الإيروتيكا" الشرقية الخرافية شهواتها. ومما لا شك فيه أنه قد وجد على المستوى التخييلي أي على مستوى إيهام الشخصية باحتماليتها بعض الصفات وأنماط العلاقات المنسوبة الى من يعتبرون "على البركة" أو "المجاذيب". غير أن ما تفعله الرواية هنا هو التنميط الحضاري لهذه الشخصية العجائبية - التخييلية، أي تمثيليتها للأعراف الجنسية والثقافية المدينية الشرقية التي يتيح مكان "حمام النسوان" لها، أن تركز بشكل خاص على المِثلية التي تعرف بمثلية "بنات العشرة". وهذه التمثيلية الحضارية أو التنميطية هي التي توضح لنا كيف أن كل العلاقات الجنسية المخفية خلف المظاهر في الشرق السري "العجيب" هي علاقات "اغتصابية" بالمعنى المباشر أو المرضي العدواني، الذي يعكس هنا في الرواية علاقات السلطة والمكانة والسيطرة. فتتزود شخصيات الرواية بمن فيها شخصية الراوي بأبعاد "شرقية" ميتافيزيقية مزعومة، يكون فيها لكل شخصية مهما أوهمت تخييليتها بالاحتمالية عجائبيتها وإيمانها الخرافي وانجذابها بالماورائيات، أي يكمن في كل شخصية كائن "استشراقي" توهم الرواية أنه الكائن "الشرقي" في المدينة، وهذا هو بيت القصيد في رؤية الرواية للعالم، التي تتصور بشكل أساسي متلقياً غربياً وليس متلقياً محلياً. وإذا كانت واقعية خرتش الغرائبية تنفتح بحكم أسطرتها للواقع على زمنٍ تاريخي محدد وأمكنة وبعض شخصيات مرجعية وجدت بالفعل، وتسرد حزمة من الإشارات الى أحداث يمتد زمنها من الأربعينيات الى ما بعد النكسة، تتخللها عملية تهريب اليهود المحليين الى اسرائيل، فإن هذه الإشارات خيطية ناظمة للحدث الأساسي فيها وليست أساسية. بمعنى أن الحدث الأساسي في الرواية ذهني استشراقي ينمط ما يعادله من وقائع وأفعال وشخصيات في خدمة استراتيجية "شرقنة الذات" أو "استبطان تنميطات الآخر" التي تغذيها اليوم في سياق صناعة الأدب العالمي في الغرب مفعولات الإمبريالية الثقافية ل"العولمة" وتنميطاتها الرائجة في أسواق تلك الصناعة، والتي لا حاجة أيضاً للإشارة الى أنها ليست مجرد مفعولاتها الوحيدة التي لا ترى عيون بعض روائيينا سواها في السوق.