Christiane Collange. Merci, Mon Siڈcle. شكراً يا قرني. Fayard, Paris. 1999. 320 Pages. لنقل سلفاً ان مؤلفة هذا الكتاب، النسوية الفرنسية كرستيان كولانج، اختارت الموقف الشجاع. فمع اقتراب ساعة أفول القرن العشرين هذا تتكاثر من كل مكان حملات النقد، بل الهجاء، لتحميله مسؤولية بلايا عظمى عاشتها البشرية في ظله، وفي مقدمتها الحربان العالميتان اللتان أوقعتا 60 مليون ضحية، والتجارب الشمولية، النازية والشيوعية، التي تسببت في هلاك 100 مليون من البشر. لكن ربما لأن المؤلفة امرأة، وعلى الأخص نصيرة للمرأة، فقد اختارت ان تنظر الى القرن الموشك على الأفول بعين أخرى: فهو القرن الذي أعطى المرأة أكثر مما أعطاها أي قرن آخر. بل هو القرن الذي صارت فيه المرأة، إذ تولد امرأة، لا تعتبر ذلك مأساة ولا ظلماً من القدر. صحيح ان المساواة التامة مع الرجل لم تتحقق بعد حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، وصحيح أن مجتمعات عديدة أخرى لا زالت تقوم، في بنيتها الثقافية بالذات، على قمع المرأة. ولكن في القرن العشرين وحده غدا شرط المرأة في مجتمعها معياراً أساسياً لتقدم هذا المجتمع أو لتأخره. فتاريخ كل الاجتماع البشري الى ما قبل القرن العشرين كان تاريخ ذل - على تفاوت في الدرجة - للمرأة. وكان وجودها وجسدها، وحتى اسمها أحياناً، يحاط بالتابوات وضروب التحريم. ولكن القرن العشرين هو الذي أسقط الحواجز بين الجنسين وأقرّ، في المجتمعات المتقدمة على الأقل، الاختلاط في رياض الأطفال، كما في المدارس والجامعات، كما في العمل والشارع، كما أمام صناديق الاقتراع وفي قاعات البرلمانات وعلى منصات المحاكم. ومع أن بعض الوظائف، مثل الكهنوت والبابوية، ما زالت محرمة على النساء حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، إلا أنه لم يحدث قط كما في القرن العشرين، ان أزيلت الحواجز بين الرجال والنساء في الميدان الذي كان على مر التاريخ حكراً على الرجل: السياسة. فالقرن العشرون، لا سيما في نصفه الثاني، يقبل الوصف بحق بأنه "قرن الرئيسات": رئيسات الجمهورية كما رئيسات الوزارات. والقائمة تبدو لامتناهية الطول. فمنذ 1980 كانت ايسلندا اختارت امرأة، هي فيجيس فنبوغادوتر رئيسة لجمهوريتها. وتلتها الفيليبين مع انتخاب كورازون أكينو عام 1986. وتتولى فيوليتا باريوس دي شامورو منذ نيسان أبريل 1990 رئاسة جمهورية نيكاراغوا. وقد ترأست ماري روبنسون بين 1990 و1997 مصائر ارلندا، وخلفتها في هذا المنصب منذ 1997 امرأة أخرى هي ماري ماك أليز. أما سريلانكا فبعد ان اختارت منذ 1960 سريمافو بندرانايكا رئيسة أولى لوزارتها، نصبت في 1994 ابنتها شندريكا كوماروتنغا رئيسة لجمهوريتها. وفي قائمة رئيسات الوزارة تحتل مكاناً مميزاً انديرا غاندي، ابنة نهرو التي قادت حزب المؤتمر وترأست حكومة الهند مرتين: بين 1967 و1977، وبين 1980 و1984. وكذلك غولدا مائير التي تزعمت حزب العمل وشغلت منصب رئيسة حكومة اسرائيل بين 1969 و1974. أما "السيدة الحديدية" مارغريت ثاتشر فقد ضربت رقماً قياسياً بترؤسها الحكومة البريطانية مدة أحد عشر عاماً ولثلاث مرات على التوالي بين 1979 و1990، وهذا على العكس من إديث كريسون التي كانت أول امرأة تشغل منصب رئاسة الحكومة في فرنسا والتي لم تبق في الحكم سوى أشهر معدودات بين أيار مايو 1991 ونيسان ابريل 1992. ولم يقف العالم الاسلامي، أو بعضه على الأقل، في منأى من هذه التطورات. فجمهورية تركيا العلمانية نصبت تانسو تشيلر رئيسة وزراء لها في الفترة بين 1993 و1994. أما جمهورية باكستان الاسلامية فقد عهدت بالمنصب نفسه الى بنازير بوتو، ابنة الزعيم التاريخي المعدوم ذو الفقار علي بوتو، ثلاث مرات على التوالي: في 1988 و1990 و1993. ولكن لئن يكن القرن العشرون قرناً نسوياً في المقام الأول، فإن عائداته على البشرية جمعاء، ذكوراً وإناثاً، لم تكن أقل استحقاقاً للشكر. فتجلية القرن العشرين الكبرى كانت على الصعيد الديموغرافي. فقد استهل هذا القرن روزنامته وتعداد البشرية لا يزيد على المليارين، وها هوذا يختتمها وتعداد البشرية ينيف على الستة مليارات. ومعنى ذلك ان القرن العشرين وهب نعمة الوجود لأربعة مليارات اضافيين من البشر. وعلاوة على هذه المضاعفة العددية المثلثة، فإن تحسين شروط الصحة قد أتاح تمديد متوسط أجل الحياة بنحو من الضعف. ففي مطلع القرن التاسع عشر لم يكن متوسط أجل الحياة لعموم البشر يزيد على 40 سنة. وفي نهاية القرن العشرين هذه بات أمل الانسان في الحياة يصل في عموم العالم الى 63 سنة، وفي البلدان المتقدمة الى 73 سنة. وقبل القرن العشرين كانت المجاعات والأوبئة مثل الطاعون والسل والكوليرا تحصد البشر بالملايين وتبيد مدناً أو حتى أمماً بكاملها. بل ان الحمى الراشحة - الانفلونزا - تسببت وحدها في 1918 و1919 في سقوط أكثر من عشرين مليون ضحية في أميركا وروسيا والصين وأوروبا. ولا شك ان أوبئة جديدة تطورت في القرن العشرين مثل السرطان والايدز في نهاية القرن، لكن صراع الطب الحديث ضد الموت حقق حتى في مجال السرطان نتائج باهرة: فقد ارتفعت فرص النجاة في سرطان الجلد والمثانة الى 90 في المئة، وفي سرطان الثدي الى 60 في المئة، وفي سرطان المعي الغليظ الى 30 في المئة بل حتى الى 90 في المئة في حالة الكشف السريع للمرض. والمستفيد الأكبر من هذا الانتصار على الموت هم بلا شك الأطفال. فقبل القرن العشرين كان واحد من كل أربعة أطفال يموت قبل بلوغ سن الخامسة. لكن تحسن شروط الصحة وتعميم التطعيم ضد أمراض الطفولة الشلل، الخناق، الخ على مستوى العالم أجمع ابتداء من النصف الثاني من القرن جعلا معدلات وفيات الأطفال تتراجع من 250 بالألف الى 110 بالألف في منتصف القرن، والى 60 بالألف في نهايته. بل ان هذه المعدلات تدنّت في البلدان المتقدمة في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية الى 9 في الألف فقط، وان كانت لا تزال تتراوح في افريقيا وآسيا بين 60 في و90 في الالف. وفضلاً عن الصحة، فإن التجلية الكبرى للقرن العشرين تتمثل في تطويعه لعاملي الزمان والمكان من خلال ثورة المواصلات والاتصالات. فإن تكن الحركة هي ينبوع الحياة، فليس من قرن سرَّع الحركة واختصر المسافات مثل القرن العشرين: طائرة الركاب التي تقطع في ساعة مسافة ألف كيلومتر، والقطار السريع الذي يقطع في ساعة أيضاً ثلاثمئة كيلومتر. لكن العلامة الفارقة للقرن العشرين تبقى من هذا المنظور تعميم استعمال السيارة. ففي بلد متقدم مثل فرنسا لم يكن عدد السيارات الموضوعة قيد الاستعمال في 1900 يتعدى 2900 سيارة. الا انه ارتفع في 1910 الى 53700 سيارة، وفي 1922 الى 242600 سيارة، وفي 1930 الى 1109000 سيارة، وفي 1939 الى 1900000، وفي 1998 الى أكثر من 25 مليون سيارة. وفي مجال الاتصالات، فإن القرن العشرين قابل للوصف بالحق بأنه قرن التلفون والراديو والتلفزيون والانترنت في نهايته. وقد أمكن للبلدان المتقدمة أن تحقق في مجال تقنيات الاعلام الجديد نسباً من الإشباع تصل الى 95 في المئة في حالة التلفزيون و120 في المئة في التلفون و180 في المئة في الراديو. لكن هذه النسب نفسها تتدنى الى السدس، وحتى الى العشر، في معظم بلدان العالم الثالث. وأخيراً يبقى القرن العشرون قرن الانجازات الثقافية، وقبل كل شيء في مجال نشر التعليم ودقرطته. فالبلدان المتقدمة أفلحت في القضاء على الأمية بنسبة 100 في المئة تقريباً مقابل 50 في المئة في كثرة من البلدان المتخلفة. وقد غدا التعليم الابتدائي في كل مكان من العالم إلزامياً، وامتدت هذه الالزامية في كثرة من بلدان أوروبا الغربية الى التعليم الثانوي، وحتى في حالة كندا الى التعليم الجامعي. وعلى حين ان الكتاب كان الى ما قبل القرن العشرين وقفاً على الخاصة وعلى خاصة الخاصة في حضارات الكتاب المنسوخ في القرون الوسطى، فإنه يُتداول اليوم بملايين النسخ يومياً. ومع أنه لا تتوفر احصاءات دقيقة، فإن ذخيرة البشرية من الكتب المطبوعة تقدر الآن بستين مليار نسخة، أي عشرة أضعاف تعداد البشر. يبقى أن نقول ان مؤلفتنا توجه شكراً خاصاً الى قرننا لأنه عمم الموسيقى. فقبل القرن العشرين كان التمتع بالموسيقى مشروطاً بوجود العازف. ولكن تقنيات الاتصال الحديثة والاسطوانات والأقراص ألغت هذا الشرط وضمنت لجميع مواطني الأرض ديموقراطية موسيقية تامة. ومع أنه لا يمكن أن تتوفر في هذا المجال أيضا احصاءات دقيقة، فإنه يمكن القول إن ما يذاع من موسيقى في العالم في يوم واحد يعادل جملة ما استمعت اليه البشرية من موسيقى عبر تاريخها كله قبل اختراع تقنيات التسجيل في القرن العشرين.