بعد الصخب العبثي الذي اتّسمت به الولايتان المتتاليتان للرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم، إختار الارجنتينيون، عبر انتخاباتهم الرئاسية الأحد الماضي 25 تشرين الاول/اكتوبر فرناندو ديلا روا الذي يعتبر تجسيدا للتقشّف، ليخلفه ابتداء من 10 كانون الاول ديسمبر المقبل. وجاء انتخاب ديلا روا الذي مثّل تحالف أحزاب اليسار والوسط، مطابقاً لما كانت كانت توقعته استطلاعات الرأي المتكررة، وأكدّ رغبة الناخبين في إبعاد الحزب "البيروني" الذي يتزعمه منعم عن الرئاسة، بحجب أصواتهم عن مرشحه ادواردو دوهالده. فإنتخاب ديلا روا ربّما عبّر عن نضج لدى الارجنتينيين، وعن ميل الى الواقعية والهدوء بعد أن أجبروا على مدى السنوات الماضية رئيسا مثل راؤول الفونسين الذي راهن على مقدراته الخطابية المميزة لحل المشكلات القائمة في البلاد ومن ثم منعم صاحب الشخصية الملونة والمتعددة الأوجه. فعلى مدى حملته الإنتخابية، لم يقدم ديلا روا أي تعهّد مثير، بل العكس: فقد بنى هذه الحملة على أسس رتيبة وإنما مستمدة من الواقع الارجنتيني: إصلاح بنيوي، خفض العجز بمقدار 4 بلايين دولار في السنة المقبلة، واحترام التزامات الارجنتين حيال صندوق النقد الدولي، ومحاربة الفساد الذي بلغ أوسع نطاق له في عهد سلفه. ومن خلال هذه الحملة تمكّن ديلا روا من كسب تأييد الأوساط الصناعية والإنتاجية عموما، وثقتها بعزمه على وقف التدهور الاقتصادي، كما حاز على تأييد العديد من القطاعات الشعبية التي اقتنعت بأنه سيسعى الى الحدّ من التفاوت الإجتماعي وخفض البطالة. وقد وُصفت هذه الحملة بأنها جديّة ورصينة ومتقشفة على غرار شخصية ديلا روا الذي لم ينزع السترة الجلدية التي تلازمه منذ 1973 ويستبدلها ببدلة زرقاء، الا لمناسبة الإنتخابات الرئاسية. وقد لعبت جدية وبساطة مظهره المناقض تماما للمظاهر الاستعراضية المعروفة عن منعم، دورها في تأمين التفاف أوساط متفاوتة من حوله، بدءا بالطبقات الإجتماعية المتدنية والوسطى مرورا بالكنيسة وصولا الى القوات المسلّحة الارجنتينية. وفي المرّات النادرة التي تحدّث فيها ديلا روا، وهو محام في الثانية والستين من العمر، لم يجد سوى العبارة التالية: "يقال أني شخص مثير للملل". لكن المعروف عنه أنه "حيوان سياسي" رغم بطئه في الردّ على التحديات وفي اتخاذ القرارات. وفي أوّل تعليق صدر عنه فور إنتخابه اكتفى ديلا روا بالقول انه سيكون رئيسا "لكل الشعب الارجنتيني". على أنه استنادا الى التقدّم الإنتخابي الساحق الذي حقّقه أمام مرشّح الحزب البيروني، يتوجّب على ديلا روا إعداد خطط مفصّلة للتعامل مع الإرث الإقتصادي المثقل الذي يخلّفه منعم. فصحيح أن الأخير نجح في السيطرة على التضخّم وفي إعادة إحياء النشاط الاقتصادي، لكنه راكم عجزا ماليا يقدّر بحوالي 1ر5 بليون دولار للسنة الحالية، إضافة الى دين خارجي بقيمة 140 بليون دولار، وهو ما يعادل ضعف العجز الذي كان منعم ورثه عن الفونسين، ومواجهة بطالة تقدّر نسبتها بأكثر من 5ر14 في المئة، الى جانب إصلاح أوضاع حوالي 4ر13 مليون ارجنتيني يعيشون في ما دون مستوى الفقر الدولي. في غضون ذلك، وفي ظل الهزيمة الواضحة لمرشّح حزبه، أعلن منعم الذي يحول الدستور الارجنتيني دون خوضه الإنتخابات لولاية ثالثة، أنه سيتفرّغ لرئاسة الحزب البيروني، مبشّراً الارجنتينيين عبر لافتات رفعت في بيونس ايريس، بانه عائد لترؤس البلاد عبر انتخابات سنة... 2003!