أجاد علي سالم في رصده أسباب الهزيمة العربية المدوية، في حرب حزيران يونيو 1967 "الحياة" 14/10/1999. صحيح انه صاغها درامياً، إلا أن مادته في التوصيف كانت تجليات الخلل الاستراتيجي في شتى الميادين: الإعلامية، والعسكرية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، في مصر، آنذاك. على أن أحداً لم يرغم علي سالم على الانسياق في "الهوجة" التي سبقت تلك الحرب. ويكفي انه استشهد بالكاتب المصري المعروف، شوقي عبدالحكيم، الذي طالب باليقظة والحذر، عبر جملة "يا جماعة الحرب ليست نزهة. والاسرائيليون ليسوا بالضعف الذي نتصوره، ولا بد ان نناقش الأمر بعقل بارد". فكادت الجموع ان تفتك به، لمجرد أنه أراد ردها الى عقلها، وتنبيهها الى ضرورة نبذ التهوين في قدرات العدو، والتهويل في القدرات الذاتية. غنيّ عن القول إن عبدالحكيم كان واحداً من قرابة ثلاثة آلاف يساري مصري امتلكوا وجهة نظر نقدية تجاه نظام الحكم، على أرضية التأييد، فأودعوا المعتقل، سنة 1959، لمدة خمس سنوات متصلة، ولولا حفلة افتتاح السد العالي، لبقوا رهن الاعتقال، سنوات أخرى، لا يعلم مداها الا الله!، اما علاقة افتتاح السد بالإفراج عن اليساريين، فتلك قصة أخرى. في صدد الانسياق وراء "الهوجة"، أذكر انني كنت ضمن قيادة حزب سياسي سري في قطاع غزة، واجتمعنا لنناقش إعلان جمال عبدالناصر، في أيار مايو 1967، التعبئة العامة، وطلبه سحب قوات الطوارئ من حدود مصر مع اسرائيل، ومن شرم الشيخ. ورجحنا اندلاع الحرب، ولم يشذ أي منا في توقع الهزيمة الساحقة، ورتبنا أوضاع الحزب على هذا الاساس. لذا كنا الحزب الوحيد في قطاع غزة الذي لم تفاجئه الهزيمة. فانفردنا بالنشاط، الذي تضاعف بعد الهزيمة إياها، فيما أصيبت الأحزاب الأخرى بالسكتة القلبية، بعد أن أتتها الهزيمة العربية من خارج دائرة التوقع. وبينما كانت هذه الأحزاب تعد نفسها لدخول تل أبيب، فإذا بإسرائيل تقتحم عليها أحلامها وتحتل بقية فلسطين، وسيناء، والجولان، في ساعات قليلة، وانهارت الأحلام الجميلة، مفسحةً مكانها للكوابيس المفزعة. في هذا الصدد أذكر أن أحد هذه الأحزاب كان ملء السمع والبعد، متمتعاً بالعمل العلني، تحت مظلة الإدارة المصرية، لكنه ما أن تلقى صدمة الاحتلال الإسرائيلي، حتى كف عن الحركة، أربعة أشهر كاملة. وحين تحرك، ببطء وحذر شديدين، فإن حجم عضويته هبط من زهاء 1400 عضو الى مجرد 267 فقط. وبعد ثمانين يوماً تلقى هذا الحزب ضربة قاصمة على يد أجهزة الأمن الإسرائيلية، أساساً بسبب جهل قيادة هذا الحزب، وكوادره بأساليب العمل السري. اتفق مع علي سالم في مقدماته، لكنه رتب عليها نتائج أخالفه فيها تماما. فمن قال إن كل مظاهر الخلل، التي أكدتها هزيمة 1967، قدرنا؟! ومن ذا الذي يرد على أسباب الخلل بالاستسلام لإرادة عدو الامة؟!. ثمة تجارب عدة، عبر التاريخ، لا شك في أن علي سالم اطلع عليها، انهزمت فيها أمم، ثم انتصرت. المهم ان تعمد الأمة المعنية الى دراسة أسباب الهزيمة، لتتخطاها. ومن غير المعقول أن تنقلب أمة ما، بمجرد هزيمتها في معركة كبرى الى الاستسلام والإذعان. ربما لم يكن الزعيم الوطني الديموقراطي الصيني المعروف، صن بات صن، المثل اليتيم في هذا الصدد، وهو الذي نجح ثلاث عشرة مرة في الوصول الى سدة الحكم في الصين، عبر ثورة شعبية، ثم يطاح به، ليرد، من فوره وفي ثقة تثير الإعجاب: "إنه مجرد فشلنا الثالث عشر". إنه النفس الطويل، والثقة في عدالة القضية، والاستقواء بالحزب الفاعل، ذي القيادة الجسورة، المحنّكة، القارئة لواقعها المحلي، والاقليمي، والعالمي، على نحو متأنٍ وعلمي صائب، لتجترح برنامجاً سياسياً سليماً، يفضي بها الى اداء صحيح، وتكتيكات صائبة، ويؤهلها لنسج تحالفات صحيحة، في شتى ميادين الداخل، والجوار، والعالم. مع تعزيز هذا كله بالديموقراطية. بهذا، وحده، نضمن تعديل ميزان القوى لمصلحتنا. فلعل من نافلة القول إن الإنسان، وليس السلاح، هو العامل الحاسم في الحرب، فضلاً عن أن من لا يملك مفتاح الحرب، لا يملك مفتاح السلام. * كاتب فلسطيني مقيم في مصر.