توفي الشاعر والكاتب المسرحي الاسباني رفائيل ألبيرتي فجر امس عن 96 عاماً. وبرحيله ينتهي آخر الشعراء الأحياء من جيل 1927 الذي ضمّ أعظم شعراء اسبانيا في القرن العشرين. ووافته المنية في قريته "بويرتو دي سانتا ماريا" القريبة من المدينة الأندلسية "قادش" التي ولد فيها وعاش طفولته الأولى، قبل انتقاله الى مدريد في ريعان الشباب. ثم دفعته الحرب الاهلية 1936-1939 الى المنافي المتعددة، ليعود الى قريته عام 1977 بعد عامين من رحيل الجنرال فرانكو: "غادرتها وقبضة يدي مضمومة، وعدت اليها ويدي ممدودة". كان رفيقاً لاسماء بارزة مثل فيديريكو غارثيا لوركا وميغيل ايرنانديث وأنطونيو ماتشادو وفينثنتي أليكساندري ودامسو ألونسو، هؤلاء الشعراء الذين لمعت اسماؤهم في أحلك لحظات بلادهم حين تلظت بنيران الحرب الاهلية، وتلوت تحت سياط الديكتاتورية. سقط لوركا صريعاً بالرصاص المعادي للحرية، ومات ميغيل ايرنانديث في سجون نظام فرانكو بعدما خُفف الحكم باعدامه واستبدل بالسجن المؤبد، وتفرق الباقون في المنافي يحملون اسبانيا في القلب. امضى رفائيل ألبيرتي معظم حياته من منفى الى آخر، من الجزائر الى ايطاليا ففرنسا فالمغرب، ومن المغرب الى ايطاليا مجدداً ثم الى اميركا اللاتينية كبحار فقدَ البوصلة التي تدلّ الى شواطىء الحب والأمان. فاختلطت همومه الشخصية بهموم الوطن، وصارت قصائده الذاتية مختلطة بدماء اسبانيا، ولم يعد ممكناً التفريق في اشعاره بين الحبيبة والوطن. وعلى رغم ان ألبيرتي بدأ حياته فناناً تشكيلياً الا ان مولده الشعري كان عام 1924 عندما اصدر اولى مجموعاته الشعرية "بحار في اليابسة"، وحصل على الجائزة الوطنية للآداب عام 1925، وكان في الثالثة والعشرين من العمر، الامر الذي جعله يركّز على الكتابة الشعرية، لكنه لم يترك فن الألوان قط. في قصائده الاولى تعامل ألبيرتي مع الزمن المفقود الذي لم يعشه، مازجاً الحلم بذكريات الطفولة. الا انه على رغم ذلك كان طليعياً في تعامله مع الكلمة، وكذلك مع الخط واللون. والطليعية كانت طابع ألبيرتي الاساسي وإن كانت تغلب عليه ميول واضحة الى الأدب الشعبي الشفاهي، اذ كان يحفظ آلاف الأبيات التي عشقها في قريته الأندلسية الصغيرة. انتقاله الى مدريد كان بداية صراع بين الشاعر والمدينة الرمادية الكبيرة، فلم يستطع الإقامة فيها الا مجبراً، وهرب عندما لاحت أول فرصة للهرب، متنقلاً بين المدن الاسبانية الصغيرة. لكنه لم يفقد تلك الذكريات التي تركها على إسفلت شوارع العاصمة. ثم جاءت أعماله التالية خلال العشرينات، مثل "العاشقة" و"فجر" و"كلس وغناء" و"عن الملائكة" لتؤكد دهشته الطفولية بالمدينة التي تبث في نفسه مزيجاً من الرعب والحب، فكان شعره متفجراً ومتشائماً. وانتشر اسم ألبيرتي بين جمهور الشعر الاسباني، ولم يفقد تلك المكانة بين شعراء جيله الا بظهور كتاب لوركا "شاعر في نيويورك". اتجه ألبيرتي خلال الحرب الاهلية التي طحنت بلاده الى توظيف قصائده في خدمة الجمهورية. وتولى ادارة متحف "البرادو" الشهير اثناء الحرب، وكان له فضل الحفاظ على مقتنياته الثمينة بجمعها وحفظها في المخازن الحصينة. وتجربته في هذا العمل كانت وراء مسرحية شهيرة كتبها عن مقتنيات المتحف، حيث تخرّج اشهر شخصيات اللوحات لتناقش جدوى الحرب. الا ان هزيمة الجمهوريين وانتصار فاشية فرانكو ألقت به في المنافي، وظل يبحر فيها متغنياً بالوطن والشعب.