"رحلة لا أنت ولا أنا رحلناها ... فلتسمعني إذن اخيراً دخلت غرناطة". من قصيدة الزائر والغائب للشاعر البوليفي ادواردو ميتري التي يخاطب فيها الشاعر رفائيل البيرتي الذي كتب "قصيدة الشاعر الذي لم يزر غرناطة". قبل الشروع بهذه الرحلة، عليّ الاعتراف بأنني - احتفاء برافائيل البيرتي - لم أشأ البحث عن آثار لوركا كما افعل عادة مع الكتّاب الذي احبهم. البيرتي الذي تجمعني به صداقة متواضعة منذ العام 1989 وازوره بين فترة واخرى، حدثني عن حزنه وغضبه من غرناطة لانها قتلت "الموريسكي الاخير" لوركا. هكذا كتب "ابن العم" البيرتي - كما كان يسميه لوركا في رسائله - "اغنية الشاعر الذي لم يذهب الى غرناطة". كان عليّ ان انتظر سنيناً اذن، حتى تأتي امرأة لتغويني على القيام بتلك الرحلة "المؤجلة": فهي في الحقيقة رغبة زوجتي الممثلة انعام البطاط التي اقترحت عليّ، إن لم استطع زيارة مدينة لوركا، فعلى الاقل ان اقودها - انا البحّار فوق الارض - الى مدينة "يرما" تلك المرأة التي لم تتوقف انعام عن الحلم بتمثيلها على المسرح فحسب، انما تعتبرها خلاصة عذابات نساء الارض. هكذا شرعت هذه المرة برحلة ليست مثل باقي الرحلات. تكتيكياً، كان عليّ ان اظل اميناً لصديقي البيرتي واستراتيجياً كنت متيقناً من انني في الطريق الى مدينة "يرما"، سأمر على خطى فيديريكو لوركا الجميل. هكذا بدأت هذه الرحلة. وكنت اعرف سلفاً ان الشاعر المحبوب اكثر من اي شاعر آخر والمترجمة اعماله عالمياً اكثر من اعمال اي واحد من زملائه الشعراء في قرننا، كانت له علاقة خاصة حميمة مع الاراضي المحيطة بنهر خينيل "Genil" فهناك، في هلال ريف غرناطة الخصيب، ولد لوركا، وفيه نمى خياله البراق… مثلما كتب فيه بعض افضل قصائده. وللاستمتاع بالطبيعة التي ألهمت لوركا شعراً عميقاً ارتبط مع الطبيعة الى هذه الدرجة من القوة، لا بد من متابعة وادي نهر خينيل ومجراه، عند مروره بغرناطة وعبر الارياف الغنية التي تحتضنه، حيث بنى النصريون نسبة الى دولة بني نصر مملكتهم المائية. فبين نهري الدارو "Darro" والخينيل تتحول غرناطة الى مدينة المياه. "غرناطة لها نهران، ثمانون برجاً، اربعة آلاف ترعة، خمسون عيناً، والف نافورة ونافورة"… كتب لوركا. في هذه الاراضي نشأت وتطورت ثقافة الري التي ادى الاعتناء بها، بالتوازي مع تطوير كل المعارف الزراعية المتعلقة بها، الى تكوين مملكة غنية بكل شيء ما زال غناها ماثلاً في الشواهد التذكارية الضخمة وفي ما تركته من معرف سرية للريف، انها "نوستالجيا… لأمس يصدح مثل بلبل"، كتب لوركا. خينيل لوركا يعيش مصغياً ليس لخريره فقط، وانما ل "اصوات الطبيعة" حيث كان الشاعر يكتب قصائده في "لا ويرتا دي سان بيثينته La Huerta de San Vicente"، تحت خور ضفة النهر. كانت الضيعة في الزمن القديم جزءاً من ضواحي غرناطة على رغم انها كانت تتصل مع المركز مباشرة. كان ذلك هو السبب الذي جعل والد لوركا يكتسب اسم سان بيثينته، على شرف اسم زوجته التي انتسبت عائلتها الى تلك الضياع. هناك انتقلت العائلة لقضاء الصيف وفيديريكو استطاع ان يستعيد عيش سنوات طفولته في الريف. قريباً من تلك المزرعة، كان عم لوركا يملك ضيعة عشقها الشاعر بشكل خاص حتى انه منح اسمها عنواناً لكتابه "ديوان التمر هندي" Divan del Tamarit". التراجيديا التي بدأت تحوم حول لوركا ترعرعت في سان بيثينته وتوجت نهايتها في اطلاق النار عليه بالقرب من "بيثانر Viznar" قبل 62 عاماً. "لا ويرتا دي سان بيثينته" اليوم هي اثر يملك ملامح لوركا، انه اثر متحول على شكل حديقة للشاعر. فلحسن الحظ نجحت المحاولة بانقاذ مشروع تقدم به محبو الشاعر للبلدية في العام 1975، على رغم ان سلسلة البيوت الحديثة نجحت هي الاخرى بتغيير بانوراما ازمان الكاتب. الريف الغرناطي الذي صاحب مجرى "خينيل" عانى ايضاً من تخريبات وحروب كانت ما كانت، الا انها لم تمنع من توغله بين فسائله وحقوله الثرية حتى الوصول الى قرى غنية بماضيها. توقفنا اولاً في "سانتا في"، حيث الملوك الكاثوليكيون بنوا معسكرهم قبل الاستيلاء على غرناطة. هنا يرى المرء اربعة ابواب ضخمة لغرناطة ولوخا وخائين واشبيليه، كانت تخدم كمدخل للسكان الكاثوليكيين، والذي كان شكله الاصلي مثل صليب. التاريخ يقود خطواتنا بين البيوت البيضاء ل "سانتا في" في طريق الكنيسة، وهي لحظة تذكر بالاتفاق بين كريستوفر كولومبوس والملكة ايزابيل على البدء بحملة غزو اسبانيا لاميركا. هكذا كانت هذه القرية الصغيرة المسرح لعملين اساسيين كبيرين: نهاية اسبانيا المسلمة والشروع باسبانيا الكولونيالية. بعد المرور ب "كاوجينا Chauchina التي، وفق يان غيبسون اهم مؤرخي حياة لوركا هي وطن لويس كورتيس هيريفيا، "ابن وحفيد الكامبوريوس" نأتي على مياه نهر "خينيل" بسعته، على "لا ويرتا دي سان بيثينته" على الحقول، وفي النهاية نطلّ على "فوينته باكيروس Fuente Vaqueros" مركز الحجاج اللوركيين. في تلك المدينة الاندلسية الصغيرة صنع شركاء الشاعر بالمواطنة من غير أنصار الفاشية تمثالاً له وحولوا البيت الذي ولد فيه في العام 1898، إلى متحف ومركز ثقافي. شكراً لأخت الشاعر، فقد بُني متحف هناك يضم عدداً كبيراً من ذكريات ووثائق تخص فيديريكو. ويجد المرء فيه كتب لوركا في كل لغات العالم التي تُرجم إليها، باستثناء اللغة العربية! وعندما بحثت عن السبب عرفت أن الناشرين العرب هم السبب، ولا حاجة للتذكير هنا بقراصنة دور النشر عندنا الذين لا يهمهم توزيع كتاب... أي كتاب! في البيت - المتحف، هناك بعض الموبيليات الأصلية لبيت أمه المعلمة بيثينته لوركا والصبي الجسور فيديريكو غارسيا رودريغيز. في النتيجة لا يمكن تجنب تذكر الكلمات التي أهداها لوركا للمكان الذي قضى فيه سنواته الأولى، حيث تشكلت حساسية الطفل بين بساطة الناس وبين الروح العميقة لمزاج سكان البحر المتوسط الذي تحتفظ به الأندلس حتى اليوم: "كل طفولتي هي ريف: رعاة، حقول، سماء، وحدة، بساطة في الحصيلة. لقد فاجأني كثيراً عندما يعتقدون بأن هذه الأشياء التي في كتبي هي جسارتي، اقدامات الشاعر. كلا. انها تفاصيل حقيقية". هناك عمد فيديريكو الصغير، في كنيسة "فوينته باكيروس"، وهناك لعب في ازقة القرية عندما كان له من العمر 7 سنوات، إذ انتقل أبواه في ذلك الوقت للعيش هناك. في شارع الكنيسة 20، نجد الدار التي سكنت فيها العائلة حتى ذهابها إلى العاصمة غرناطة، عندما كان لفيديريكو 11 عاماً. من جديد على ضفاف ال "خينيل" نتابع مسيرتنا هذه المرة على الطريق المرقم ب N432 فنصل بسيارتنا مباشرة إلى "لوخا". ما زالت هذه القرية الصغيرة - التي كانت مدينة كبيرة ذات يوم - تحتفظ بالقصبة القديمة، وكنيسة "سان غابرييل" الضخمة، التي تُنسب قبتها إلى المعماري الشهير دييغو دي سيلوي. بالاضافة إلى ذلك تدهش لوخا زوارها بمنظر حدائقها غير المألوفة في اسبانيا عادة، حتى تبدو المدينة بمثل تلك الصورة التي رسمها لوركا، بعنفوان قبة حدائق ناربينز وشجرات الزيتون تتسلق الأكمة، لكن فوق كل شيء أنها عجائبية نهر خينيل في مساقط كولا ديل كابايو La Cola del Caballo ولوس انفييرنوس Los Infiemos ترجمتها الحرفية: بين مساقط ذيل الحصان والجحيم!. عند طريق الرجوع إلى غرناطة، نغادر حينيل ونتوقف أكثر من مرة بحثاً عن قرى لوركا التي تُشكل كل الريف المحيط. هنا دار لوركا الذي أصبح رجلاً مشهوراً مع فرقته المسرحية "لابراكا La Baraca" في هذه القرى مثلوا وأخرجوا وعرضوا مسرحياتهم بمشاركة فلاحي القرى: مونتيفريو Montefrio القرية الصغيرة، لكنها لا تخلو - مثل اخواتها من القرى الأندلسية الأخرى - من التاريخ الفني. إذ تحت القلعة الشمخة على هضبة عالية، ينتصب قصر صغير تسحر رؤيته. تزداد الهضاب علواً، تهيئنا للمشهد الذي سيأتي، فما ان نتابع طريقنا قليلاً حتى تبرز الطبيعة الريفية الجبلية، بالضبط عندما تلوح في الافق "لا بينا دي لو غيتانوس Pena de los gitanos ترجمتها الحرفية: صخرة الغجر، والى جانبها النُصب التذكارية والقلاع الايبيرية، حتى تفرض سلسلة جبال "باراباندا" ملامحها العالية، ونصل الى "ايورا Illora". لا يهم. حتى الآن ظلت لنا كيلومترات قليلة - بالقياس للطريق الذي قطعناه - كي نصل هدفنا النهائي، هدف انعام بالاحرى، ولكن قبل الوصول اليه كان لا بد من المرور ب "مولثين Molcin التي تسترخي عند المنحدر محتضنة منازلها البيضاء وقلعتها العربية. يختلف النظر من هناك، لا لأننا اصبحنا على مشارف الهدف الذي قطعناه آلاف الكيلومترات من اجله - من هامبورغ - وانما لان بانوراما "خينيل" تملك هنا جمالاً غير مألوف. وعلى رغم جمال المنظر، الا اننا لم نتوقف طويلاً. كنت ادري اننا اقتربنا من هدفنا النهائي الذي يمكننا رؤيته الآن: "ساونتاريو ديل الكريتو ديل بانيو Santuario del Cristo del Pano" التي يتم مهرجانها الشعبي كل سنة في تشرين الاول اكتوبر والذي ألهم لوركا كتابة مسرحيته "يرما". وعندما قلت لانعام ذلك، صاحت بي ان أقف. توقفت. فرأيتها تنزل من السيارة، وتسير خطوات، لتقف فوق احدى التلال القريبة. هناك مدّت يديها، وصرخت: "أبداً هذا. ابداً. انصرف، انصرف، لكن واثقة. الآن نعم اعرف انه اكيد. سأذهب لاستريح من دون ان استيقظ فزعة، لكي أرى اذا كانت الدماء تعلن لي دماء اخرى جديدة. بالجسد الجاف للأبد. ماذا تريدون ان تعرفوا؟ لا تقتربوا، لأنني قتلت ابني، انا قتلت ابني!". تذكرت خطاب يرما الاخير بعد قتلها لزوجها. لم تتحدث انعام بلسان يرما فقط، انما بدت لي بحركة ذراعيها وجسمها، كأنها كانت تتهيأ للطيران باتجاه يرما، بعد تحرر خطاها، وبداية رحلتها الحقيقية.