كنت، ومازلت، ارى أن عبدالله البردوني شاعر اليمن الاكبر - واحداً من الشعراء التقليديين الذين يهزون صلابة نظرتي الى الشعر العربي العمودي، في عقودنا الاخيرة - باعتباره شعرا "خارج التاريخ". كانت نظرتي هذه تقوم على اساس ان الاشكال الشعرية ليست مجرد ابتكار افراد، وليست مجرد مبادرة بعضٍ من الشعراء الموهوبين، بل هي ايضاً - وربما اساساً - تعبير عن مراحل تاريخية اجتماعية في تطور المجتمعات. وعلى ذلك فإن شكل العمود التقليدي هو تعبير عن المرحلة الاجتماعية الكلاسيكية التي عاشها المجتمع العربي قبل عصره الحديث. وبانتقال المجتمع العربي الى مرحلته الحديثة والمعاصرة الراهنة - التي جسدتها حركة الشعر الحر من منتصف القرن - يصبح هذا الشكل العمودي خارج المرحلة التايخية الراهنة. على ان هذه الفكرة النظرية - التي لا تخلو من ميكانيكية جافة - كانت تعاني قدرا جليا من الاهتزاز كلما تأملت ظاهرة فذة مثل مهدي الجواهري او عبدالله البردوني، وكلما قرأت قصيدة من قصائدهما الكبيرة. وحينذاك، كنت اعالج هذا الاهتزاز بردين: الأول، هو ان انتقالة مجتمعنا العربي الى العصر الحديث لم تكن انتقالة كاملة شاملة صافية، اذ مازالت هناك بقايا من المجتمع التقليدي القديم مترسبة بل وفاعلة في احشاء النقلة الحديثة. وهي بقايا يتجسد تجليها الشعري في الشكل العمودي. والثاني، هو ان الفن عموما يتأبى على كل تصنيف "حديدي"، فغالبا ما يخترق الفن الجميل الاصيل كل "الاقفاص" المسبقة، خاصة اذا توفر له مبدعون، من طبقة عبدالله البردوني. والحق ان شعر البردوني - المبصر الذي رحل عن واحد وسبعين عاماً - لم يقتصر على مجرد هز قناعتي الثابتة لقوته ومتانته، وانما ينطوي - بعد ذلك - على الكثير من العناصر "الحديثة" التي لا تخفى على العين غير المتعصبة او غير المعصوبة. من هذه العناصر: الطابع الوطني لشعره وهو الطابع الذي يقربه من مفهوم شعراء "الالتزام" في حركة رواد الشعر الحر. ومنها: جرأته الفكرية السياسية، التي ابعدت شعره - وهو العمودي التقليدي - عن المناسبات والاخوانيات وهجاء الدهر، وغير ذلك مما هو لصيق بماهية العمود. وقد كلفته هذه الجرأة غاليا، من حريته وأمنه وعيشه. ومن هذه العناصر ايضاً: حساسيته المعاصرة التي تجعل الكثير من شعره ينطبق على لحظتنا الراهنة وكأنه "زرقاء اليمامة" التي تبصر - دون الآخرين - ما سوف يكون قبل ان يكون، ومنها: استخدامه بعض المفردات العامية أو الشعبية السيارة، مما يسميه النقاد المحدثون "لغة الحياة اليومية" في ثنايا نسيجه الفصيح المكين. ومن هذه العناصر: اقتناصه للكثير من "الصور" الشعرية الجديدة المدهشة والشعر صورة في رأى بعض النقاد التي تبتعد عن البداوة بقدر ما تقترب من المدنية المعاشة الحاضرة، وهو ما يعني حصر "المخيلة الحديثة" في روح هذا الشاعر التقليدي. ومنها اخيرا، ما يحفل به شعره من وعي اجتماعي وايديولوجي وحضاري متوهج، يتجاور عبره مع وعي رواد حركة الشعر الحر، من حيث الانطلاق من: حرية الوطن، وحرية المواطن، وحرية الاعتقاد، وحرية رغيف الخبز، ووحدة الانسان في كل زمان ومكان. *** إذن، صاحب "ارض بلقيس" و"طريق الفجر" و"مدينة الغد" و"السفر الى الايام الخضر" ليس مجرد شاعر كبير، بل هو ظاهرة اجتماعية وطنية ثقافية جمالية في حياتنا العربية المعاصرة. صاحب "قضايا يمنية" و"رجال ومواقف" و"الجديد والمتجدد في الأدب اليمني" ليس مجرد حلقة وصل كبرى بين الزبيري - شاعر اليمن التقليدي ومناضلها القديم - وعبدالعزيز المقالح -رائد الشعر الحر في اليمن - وابنائه الاكثر حداثة، بل هو اب من آباء اليمن الحديث. ورحيل البردوني يعني - من ناحية - فقدان ركن ركين من اعمدة الشعر التقليدي. ويعني - من ناحية اخرى - أن المناطق "قبل الحديثة" القابعة في مجتمعنا الراهن راحت تفقد - بعد الجواهري والبردوني - تجسيداتها السامقة في الشعر، ليصبح وجودها في احشاء الواقع الراهن معلقا في الفراغ ومقطوع اللسان. * شاعر مصري.