يحق للحكومة الموريتانية أن تسعد لأنها تقدمت الى المراتب الأولى بين البلدان العربية على لائحة من لوائح "الانجازات" بعدما اكتفت طيلة عقود بآخر الترتيب على لوائح التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الأمية. فبعد لقاء وزير خارجيتها ونظيره الاسرائيلي ديفيد ليفي في واشنطن أمس، في حضور عراب التقارب مادلين أولبرايت، صارت موريتانيا البلد العربي الثالث الذي حقق تطبيعاً كاملاً لعلاقاته الديبلوماسية مع الدولة العبرية! ستقول الحكومة الموريتانية ان ظروفها الاقتصادية الصعبة، خصوصاً حاجتها للمساعدات الغربية، وسعيها للتخفيف من الحملات الإعلامية التي تستهدفها بسبب سجلها غير المشرق في مجال حقوق الانسان، هي التي فرضت تقديم ثمن للدول الغربية التي تعتبر الجماعات اليهودية، وتالياً اسرائيل، مفتاحاً للتأثير في قرارها. إلا أن موريتانيا ليست دولة مجابهة مع اسرائيل حتى تقنع العالم بأن التطبيع الكامل مع "جارتها" القوية سيخفف الاختناق عنها. فالثابت ان وضعها الجغرافي والاقتصادي لا يمكن مقارنته مع ما تتعرض له سورية، أو حتى ما كان يتعرض له الأردن قبل التوقيع على اتفاق وادي عربة، من صعوبات اقتصادية وضغوط سياسية. واضح أن هناك هرولة موريتانية لها نذر قبل اتفاقات أوسلو، لكنها تطورت في شكل متسارع بعد الاتفاقات بدعوى أن أصحاب القضية أبرموا سلاماً مع "الطرف المقابل"! والهدف من وراء هذا الخيار هو السعي لإدماج موريتانيا في العالم الغربي وتسويق حكم الرئيس ولد طايع بعد عزلة طويلة نتيجة موقفه من حرب الخليج الثانية، لكن ذلك يتم على ظهر القضية الفلسطينية التي لا شيء يدل على أن عناوينها الرئيسية المتصلة بالحل النهائي ستجد طريقها للتسوية في ظل التشدد الاسرائيلي. اذا كان الموريتانيون يريدون التكفير عن موقفهم من احتلال الكويت أو التدليل على حسن نياتهم فالأحرى أن يكون ذلك مع البلدان العربية التي اختلفوا معها وليس مع اسرائيل، خصوصاً أن العرب قادرون، إذا ما تكرست المصالحة ضمن هذا الاطار، على تأمين الحلول للمشاكل الاقتصادية التي يعاني منها البلد، فيما لا تستطيع الدولة العبرية أن تقدم شيئاً للموريتانيين، بدليل أن ثمن صفقة "التطبيع الكامل" هو تسليم الحكومة الموريتانية شهادة حسن سيرة كي تستظهر بها لدى الصناديق المالية الدولية والعواصم الغربية "لتدبير أمورها" معها، بل هي لن تحصل على الأرجح على الشهادة الموعودة وسيكتفي الاسرائيليون "بكلمة خير" في موريتانيا فقط! يبدو أن ثمة أمراً غير مفهوم في الخطوة الموريتانية لأنها مجانية اضافة الى كونها لا تقيم اعتباراً لموقف الرأي العام والقوى المحلية، بما فيها قوى وقطاعات واسعة داخل الحكم تعارض في شدة خطوة كهذه، وهي مستعدة لدفع الأمور باتجاه أزمة داخلية مثلما فعلت لدى الكشف عن قصة دفن النفايات الاسرائيلية في موريتانيا. وبهذا المعنى يمكن القول ان اجراء "التطبيع الكامل" يشكل مجازفة بفتح الجراح القديمة ومعاودة تأزيم الوضع الداخلي الذي لم يستعد استقراره الكامل حتى الآن. أبعد من ذلك سدد الاجراء ضربة للمعسكر العربي في مسار التسوية الجارية في الشرق الأوسط، لأن "التطبيع الكامل" في ظل ما كشفته حكومة باراك من خطط مستقبلية وما تجلى من استراتيجيتها التفاوضية، يخذل الفلسطينيين ويضعف المفاوضين العرب الآخرين كونه يفقدهم إحدى أهم أوراق الضغط المتبقية بأيديهم.