يبدو عنوان "تراث ضد نفسه" متناقضاً للوهلة الأولى. هل يمكن ان يكون التراث ما يقطع السلسلة ويقاطع الاستمرارية؟ هل يستطيع هذا النفي ان يصبح تراثاً دون ان ينكر نفسه؟ لا يتضمن تراث القطيعة نفي التراث فحسب وانما ايضاً القطيعة. ولا يحل التناقض استبدال عبارة "تراث ضد نفسه" بكلمات يكون تناقضها اقل وضوحاً - مثل "التراث الحديث". كيف يمكن ان يكون الحديث تراثياً؟ ورغم التناقض الضمني، وأحياناً مع وعي كامل به - كمثل تأملات بودلير في الفن الرومانسي - اطلق على الحداثة، منذ بداية القرن الماضي، اسم تراث، واعتبر الرفض الشكل المفضل للتغيير. والى حد ما، سيكون من غير الصحيح ان نقول ان الحداثة تراث، ينبغي ان اقول انها التراث الآخر. الحداثة تراث جدلي يزيح تراث اللحظة، مهما كان، ولكن بعد لحظة، يمنح مكانه لتراث آخر، هو، بدوره، تجل مؤقت للحداثة. والحداثة ليست نفسها ابداً، انها دائماً الآخر. ولا يتصف الحديث بالجدة فحسب وإنما بالغيرية كذلك. والحداثة تراث عجيب وتراث للعجيب، ومحكوم عليها بالتعددية: كان التراث القديم دائماً نفسه، اما الحديث فهو مختلف على الدوام. سلم القديم بالوحدة بين الماضي والحاضر، لكن الحديث، الذي لم يقتنع بالتشديد على اختلافاته الخاصة، اكد ان الماضي ليس واحداً بل متعدد. وبهذا المعنى يكون تراث الحديث غيرية آخرية جذرية وتعدداً للماضي. اما الحاضر فلن يتسامح مع الماضي، ولن يكون اليوم ابن الماضي. ما هو حديث يمارس قطيعة مع الماضي، وينكره بشكل كامل. فالحداثة مكتفية بذاتها، وتؤسس تراثها الخاص. ومثال على ذلك عنوان كتاب هارولد روزنبرغ عن الفن: تراث الجديد. وعلى الرغم من ان الجديد يمكن الا يكون بالضبط حديثاً - هناك ابداعات معينة غير جديدة - يعبر هذا العنوان بوضوح، وإيجاز بارع، عن مفارقة في جذر فن وشعر زمننا، عن المبدأ الفكري الذي يبررهما وينكرهما في آن، وعن غذائهما وسمهما. اذ ان شعر وفن زمننا يعيشان على الحداثة - ويموتان منها. ظهرت عبادة الجديد وحب الجدة في تاريخ الشعر الغربي بانتظام لا اجرؤ على تسميته دورياً، وهو ليس عشوائياً ايضاً. ثمة فترات كانت فيها القاعدة "محاكاة القدماء" وأخرى مجدت الجدة والدهشة. ومثال على ذلك شعراء ما وراء الطبيعة الميتافيزيقيون الانكليز والشعراء الاسبان الباروكيون. كلهم مارس بحماسة متساوية علم جمال الدهشة. ان الجدة والدهشة مصطلحان متصلان، لكنهما يختلفان عن بعضهما، وأفكار واستعارات القصيدة الباروكية وأدواتها الكلامية الأخرى مصممة كي تدهش: الجديد جديد اذا كان مفاجئاً. لكن جدة القرن السابع عشر لم تكن نقدية ولم تتضمن نفي التراث. على العكس، اكدت استمراريته. وقال غارسيان Garcian: "ان الحديثين أكثر براعة من القدماء ولكن لا يعني هذا انهم مختلفون". تحمس غارسيان لكتابات بعض معاصريه ليس لأنهم هجروا اسلوباً اقدم، بل لأنهم قدموا مزيجاً جديداً ومدهشاً من العناصر نفسها. لم يكن غونغورا Gongora او غارسيان ثوريين بالمعنى الذي نستخدم به الكلمة اليوم، ولم ينطلقا ليغيرا افكار الجمال في زمنهما على رغم ان غونغورا فعل ذلك في الحقيقة. كانت الجدة، بالنسبة اليهما، مترادفة ليس مع التغيير بل مع الدهشة. ولكي نعثر على هذا التوحد الغريب بين جماليات الدهشة والنفي، ينبغي ان ننتقل الى نهاية القرن الثامن عشر، الى بداية الحقبة الحديثة. كانت الحداثة، منذ ولادتها، هياماً نقدياً، بقدر ما هي نقد وهيام، وككثير من الهندسات الكلاسيكية للمتاهات الباروكية كانت نفياً مزدوجاً. كانت الحداثة هياماً مخدراً، يبلغ اوجه في نفي نفسه، ونوعاً من الهدم الذاتي الخلاق. ومنذ الرومانسية كان الخيال الشعري يبني نصباً تذكارية على الأرض التي هدمها النقد. ما ميز حداثتنا عن حداثة العصور الاخرى ليس عبادتنا للجديد والمدهش، على رغم اهميتها، وإنما حقيقة انها رفض، نقد للماضي القريب، ومقاطعة للاستمرارية. ليس الفن الحديث سليل عصر النقد وحسب، وانما هو ايضاً ناقده الخاص. وليس الجديد هو الحديث بالضبط، الا اذا كان يحمل شحنة متفجرة مضاعفة: نفي الماضي وتأكيد شيء مختلف. هذا "الشيء" غير اسمه وشكله في مجرى القرنين السابقين من حساسية ما قبل الرومانسيين الى ما وراء المفارقة Meta - irony لدوشامب لكنه كان دائماً ما هو مختلف، ومنفصل عن التراث السائد، وغريب عنه، فرادة تنفجر في الحاضر وتحرف مساره في اتجاه غير متوقع. انه غرابة مثيرة للجدل، معارضة نشيطة. ولقد اغرانا الجديد ليس بسبب جدته، بل بسبب اختلافه. وهذا الاختلاف نفي - مدية تقطع الزمن الى نصفين: ما قبل والآن. تستطيع الحداثة ان تتبنى القديم جدا اذا رفضت تراث اللحظة واقترحت تراثاً مختلفاً. مكرساً من القوى المثيرة للجدل نفسها كالجديد، ما هو قديم جدا ليس ماضياً وإنما بداية. يبعثه ولعنا بالتناقضات الى الحياة، ينفخ فيه الروح، ويجعله معاصراً لنا. يتألف الفن والأدب الحديثان من اكتشاف مستمر لما هو قديم وبعيد: من الشعر الشعبي الألماني الذي احياه هيردر الى الشعر الصيني الذي اعاد باوند ابتكاره، من شرق دي لاكروا، الى فن البحار الجنوبية الذي احبه بريتون كثيراً. وحدد ظهور جميع هذه اللوحات، والمنحوتات، والقصائد في افقنا الجمالي انكساراً، وتغيراً. وقاطعت هذه الابتكارات، التي يبلغ عمرها مئة وألف عام، التراث مرة بعد اخرى، واتصل تاريخ الفن الحديث بانبعاث الاشكال الفنية للحضارات المتلاشية. ودخلت منتجات الفن القديم والحضارات البعيدة، بشكل طبيعي، في تراث القطيعة، كتجليات لعلم جمال الدهشة، وكتجسدات موقتة للنفي النقدي. انها من بين أقنعة الحداثة. ومحا التراث الحديث القطيعة بين القديم والمعاصر وبين البعيد والقريب. وكان الحمض الذي أذاب الاختلافات هو النقد. الهيام النقدي: الحب المفرط والمتقد للنقد وأدواته التفكيكية الدقيقة، لكنه نقد يحب موضوعه، يجوع الى الشيء نفسه الذي ينكره. محباً لنفسه ومحارباً لها، لا يستطيع ان يؤكد اي شيء مستمر او يتخذ اي مبدأ كقاعدة، مبدؤه الوحيد هو نفي جميع المبادئ، التحول المستمر. ولن نفهم معنى هذه العبادة الا اذا ادركنا انه متأصل في مفهوم خاص عن الزمن. فبالنسبة الى القدماء، اليوم يكرر البارحة، اما بالنسبة الى الحديثين فإنه ينكره. في الحالة الأولى، يرى الزمن ويشعر به كعامل منظم، كعملية تكون فيها التنوعات والاستثناءات هي فعلاً تنوعات واستثناءات من القاعدة. اما بالنسبة الينا فإن الزمن لا يكرر لحظات او قروناً متماثلة، كل قرن - وكل لحظة - فريد ومختلف وآخر. يخفي تراث الحديث مفارقة اكبر مما هو ملمّح اليه في التناقض بين القديم والجديد، الحديث والتقليدي. ويتلاشى التعارض بين الماضي والحاضر لأن الزمن يمر بسرعة بحيث ان الفروقات بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، تتبخر. ونستطيع ان نتحدث عن تراث حديث دون ان نناقض انفسنا لأن العصر الحديث قد حتّ تقريباً، الى درجة التلاشي، العداء بين القديم والواقعي، والجديد والتقليدي. ولا يعتم تسريع الزمن الانفصال بين ما حدث وما يحدث فحسب، وإنما ايضاً يستأصل الفروقات بين الكهولة والشباب. لقد مجد عصرنا الشباب وقيمه بجنون كي يجعل من هذه العبادة خرافة، هذا اذا لم يجعلها ديناً. ومع ذلك لم يحدث من قبل ان ادركتنا الشيخوخة بسرعة كما اليوم. فمجموعاتنا الفنية، ودواويننا الشعرية، ومكتباتنا، مليئة بأساليب مكتهلة قبل الأوان. حركات، لوحات، منحوتات، روايات وقصائد. نشعر بالدوار: ما حدث لتوه ينتمي مسبقاً الى عالم البعيد بشكل لانهائي، بينما في الوقت نفسه قديم القدماء قريب بشكل لانهائي. وبوسعنا ان نستنتج ان التراث الحديث والافكار والصور المتناقضة التي يثيرها هذا المفهوم هي نتيجة ظاهرة اكثر ازعاجاً: يحدد العصر الحديث تسريع الزمن التاريخي. وإذا كانت الاعوام، والشهور، والأيام، في الحقيقة، لا تمر الآن بسرعة اكبر، فعلى الأقل تحدث فيها اشياء اكثر. وتحدث اشياء اكثر في الوقت نفسه - ليس تعاقبياً، وإنما تزامنياً. وينتج تسريع كهذا عملية صهر: تتدفق جميع الازمنة والأمكنة معاً في "آن وهنا" واحد. يمكن ان يتساءل البعض هل التاريخ يمر الآن بشكل اسرع من قبل. من يستطيع ان يجيب على هذا السؤال؟ ان تسريع الزمن التاريخي يمكن ان يكون وهماً، والتغيرات والتشنجات التي تسبب لنا الكآبة، او تملؤنا بالتساؤل، يمكن ان تكون اقل عمقاً وحسماً مما اعتقدنا بكثير. لقد بدت الثورة الروسية انقطاعاً جباراً بين الماضي والمستقبل بحيث ان مسافراً قال: لقد رأيت المستقبل وهو يعمل. واليوم يدهشنا استمرار الملامح التقليدية لروسيا، ويبدو ان كتاب جون ريد الذي يروي الأيام المؤثرة لعام 1917 يصف ماضياً بعيداً جداً، هو ماضي مركيز كوستين Coustine، الذي كان موضوعه عالم القياصرة البيروقراطي والبوليسي، وهو جديد - عصري - بأكثر من طريقة. وتكرهنا الثورة المكسيكية على الشك بتسارع التاريخ. كانت جيشانا عميقاً هدف الى تحديث البلاد، مع ذلك، كانت الحقيقة الاكثر اهمية عن المكسيك المعاصرة هي استمرار طرق تفكير وشعور تنتمي الى العصر الكولونيالي، او العالم ما قبل الهسباني. وينطبق الشيء نفسه على الفن والأدب. حدثت في القرن والنصف السابقين تغيرات وثورات جمالية كثيرة، لكن المبدأ نفسه الهم الرومانسيين الألمان والانكليز، والرمزيين الفرنسيين، والطليعة الكوزموبوليتانية العالمية للنصف الأول من القرن العشرين. وعرف فريدريك شليغل، في مناسبات متنوعة، الشعر الرومانسي، الحب، والمفارقة، بمفردات لا تختلف عن تلك التي استخدمها بريتون، بعد قرن، في حديثه عن ايروتيكية، وخيال، وحس فكاهة السورياليين. أهي تأثيرات؟ أم مصادفات؟ كلا: انها مجرد استمرار طرق معينة في التفكير، والنظر والشعور. وتنمو الشكوك حول حقيقة "تسريع الواقع" بشكل اكبر، اذا قارنا، بدلاً من العودة الى الماضي القريب من اجل الامثلة، بين عصور بعيدة او حضارات مختلفة. ولقد اظهر جورج دوميزيل George Dumezil وجود ايديولوجية مشتركة بين جميع الشعوب الهندو - أوروبية، من الهند وإيران الى العالمين السلتي والجرماني، وهي ايديولوجية قاومت، ولا تزال تقاوم، الحت المضاعف للعزلة التاريخية والجغرافية. ترجمة: أسامة اسبر - دمشق.