العاصمة في الوطن هي بمثابة القلب في الجسد، تضخُّ الدم الى الاطراف وتستعيده منها في حركة دائرية مستمرة. خفقانها مؤشّر الحياة وعلامتها، في حين ان توقّفها عن النبض إيذان بموت الوطن برمته. وربما سميت العاصمة عاصمة لانها تعصم جسد الوطن من التفكك والتلف، ولانها تنظِّم حركة أطرافه وتمنعه من الوقوع في الفوضى والتشتت، داخل ايقاع مدروس قوامُه التكامل والإنسجام. لا نستطيع امتلاك قوة الايحاء التي يمنحها الريف الا داخل المختبر الأهم للروح الانسانية التي تشكلها المدينة بوصفها الصخرة التي نشحذُ فوقها سكّينَ الذاكرةِ المترعةِ بالترجيعات، كما نشحذ فوقها شفرةَ الأخيلة التي ترسم للمستقبل فضاءه وتهيؤاته. إن شرط نموِّنا الفعلي لا يتحقق الا بالانفصال عن ثدي الأم والاتصال بمصادر حياة اخرى، فيما يشكل الانفصال عن مساقط رؤوسنا الخطوةَ التالية التي تضعنا على طريق ولاداتنا الجديدة المحفوفة بالفقدان. فنحن لا نكفُّ عن مغادرة ريفيتنا منذ ان نولد. لا بل ان مغادرة هذه الريفية هو الشرط الأهم لامتلاكها من جديد عبر اللغة والذاكرة والحنين. من هنا يصبح الانتقالُ الى المدينة القَطْعَ الضروريَّ لحبل سرَّتنا الثاني، الذي لا تكتمل من دونه رجولتنا النفسية والإبداعية. هو انتقال تلازمه صرخة ألمٍ شبيهة بصرخة الخروج من الرحم. كان لا بدّ اذن من مغادرة قرانا المتباعدة باتجاه بيروت. ففي ضوء هذه المسافة الشاسعة بين إسمنت المدينة الشاهق ودمِ طفولاتنا السائلِ على الطرقات ولدتْ قصائدنا الأولى ورواياتنا الأولى ومسرحياتنا الأولى. كما ولدت الحداثة العربية من رحم هذا التمزّق وعلى ضفافه، منذ غادر بدر شاكر السياب قريته جيكور باتجاه البصرة وبغداد وحتى صرخة محمد العبدالله في وجه بيروت "لست أمي / إنما أنت خياناتي لأمي / وخضوعي للذي مزق أمي واشتراني"، مروراً بهجائياتِ أحمد عبدالمعطي حجازي للقاهرة في ديوانه المميز "مدينة بلا قلب". غير ان هذه المدن كانت الممر الاجباري لا لإكتشاف أنفسنا فحسب، بل لاكتشاف الآخر والتعرّف اليه والاغتناء بتجربته. وكان "الهبوط" الى بيروت المسافة التي لا بد من قطعها لكي نكتشف ما كنّاه في ضوء ما سنصيره. واكتشفنا ان بيروت لم تكن جدراناً صماء من الاسمنت بقدر ما كانت بابنا المفتوح بين الصحراء والبحر، بين المهد والمتاهة. فمن بين المدن العربية الكثيرة تكاد بيروت تكون المدينة الوحيدة التي هدمت أسوارها بالكامل لتتحوّل الى ساحة أو فضاء. لهذا يصبح تعبير "أبواب المدينة" الذي عنون به الياس خوري إحدى رواياته عنواناً مجازياً يقبل هذه الاضافة أو يقلُبها لتصبح "مدينة الأبواب". واذا كان رامون لاسيرنا اعتبر "أن الأبواب المفتوحة على الريف هي وحدها التي تمنح الحرية من وراء ظهر العالم" فإن هذه الأبواب لا تفتحها سوى المدن الحرّة التي من دونها يظل الريف فردوساً يقبع في جحيم الجسد المغلق. ثمة ظروف كثيرة أتاحت لبيروت، من دون سواها، ان تلعب الدور الذي لعبته طوال عقود ثلاثة. فهي ملتقى إثنياتٍ وتجمعاتٍ شديدة التنوّع تحملّ كل منها انبياءها وقديسيها وحتى مشعوذيها ولصوصها ليتواجهوا في ساحة مكشوفة، وعند النقطة الملتبسة بين التآزر والتباغض، بين الحب والكراهية. وهي نقطة اللقاء بين الخارج المفتوح على المغامرة والإكتشاف والخفة، والداخل المشبع بروائح الماضي وثقل التاريخ. كلّ شيء هنا يقف على الحافة بين الخيارات الشاغرة، من الهوية والمعنى والدور والانتماء، الى الجغرافيا المدهشة التي يتجاور فيها البشر والنسور، الهندسة والفوضى، الأجراس والموتى، والتي تحوّل البحر الى قط وديع يلحس أقدام الجبال. واذا كان المعنى الأبرز الذي مثّلته بيروت هو معنى الحرية فإن هذه الحرية ليست غريزةً فطريةً خاصةً باللبنانيين وحدهم من دون البشر، ولا هي ثمرة تفوّق عرقي، كما يتصور بعض الغلاة، بل هي الممر الاجباري لتعايش هذا التنوّع الأهلي المحكوم بالإندماج، الباحث عن نقاط التقاطع التي تمنع الفروقَ من ان تصبح افتراقاً، والاختلاف من ان يصبح خلافاً، والتعدد من ان يصبح عداءً وحروباً متجددة. هذا الإختبار البشري اليومي للحرية المحفوفة بالمغامرة والقلق، والمحكومة بالتنافس والمزاحمة والإبتكار جعل من بيروت، ومن دون إعلان، عاصمة "حقيقية" للثقافة العربية الباحثة عن صخرة أمان وسط الرمال المترامية الأطراف، وفوق هذا النتوء الأرضي الضيق تمكنت المدينة من أن تنظّم بنجاح الصراع الواسع على الهوية وان تقنن الاضطراب الذي يلفها من كل صوب، وأن تضرم النار تحت شهوة المغامرة، وأن تكون ملاذ الهاربين من القمع والباحثين عن مواخير الرغبة. تمكنت من ان تكون الفندق والملهى والمطبعة والجريدة والكتاب في آن واحد. وأن تدفع سجال الثنائيات المتعارضة بين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب وبين الروح والجسد الى نهاياته. ولم يكن السجال بين مجلتي "شعر" و"الآداب" سوى المعادل الأدبي والإبداعي لهذا الالتباس المشحون بدينامية قلَّ نظيرها. غير ان هذه الكيمياء الدقيقة من الخلائط والأمزجة والخيارات كانت مفرطة الحساسية الى الحد الذي يجعل من الخطأ في التقدير أو في حساب المقادير كافياً ليفجر المختبر برمته، وعلى من فيه. وكان الإشكال يكمن في هذا التناقض المر بين ثراء الطوائف وفقر الطائفية، بين تنافس الجماعات التي تذهب في حفل الابداع الى التخوم الاخيرة للتجريب في حين ان نظام تعايشها السياسي يحشرها في الممر التسووي الأكثر تخلفاً وضيق أفق. وحين قامت الحرب بدت كأنها تضع نقطة الختام في نهاية السطر. تحولت بيروت الى شظايا وجزر وقصاصات أوهام، ومربعات متنابذة يطلق كل منها النار على الآخر. فالريف الذي جعلته المدينة حزاماً لها تقدم بدوائره الأقرب والأبعد ليخنقها بيدي جوعه وفقره وقهره. وسبق لجورج قرم ان اعتبر جانباً كبيراً من الحرب الاهلية اللبنانية يتمثل في هجوم الأرياف على المدينة. والريف هنا لا يتصل بالطبيعة الساحرة والشاعرية الرومنسية بل بالبعد الرمزي الذي يبدأ من مناطق الحرمان النائية وصولاً الى أبعد نقطة في الصحراء العربية. إنهم "بنو هلال" في زحفهم على القيروان. هلاليون كثيرون تضافروا في المديين الوطني والاقليمي مع ظروف دولية معادية ليعيدوا المدينة الى الرحم الذي خرجت منه أو ليرموا جمالها اليوسفي في غيابة البئر. السلم الناقص الذي جاء بعد ذلك. السلم القادم على ظهور الثروات والسفن والشركات المتعددة والإعمار المشوه لم يكن ليعيد للمدينة المعنى الذي خسرته. تمّ نقلها دفعة واحدة من الترييف الى العولمة ومن الخندق الى السوق ومن القبور الى رخام الأبنية الشبيهة بالقبور. الحرب حملتنا من البيوت الى الشوارع وحولتنا الى مشردين. والسلم أعادنا من الشوارع الى البيوت ولكنه حولنا الى فئران. سقطت الطبقة الوسطى التي صنعت المعنى وطرحت السؤال وبنت مجد المدينة وارتفع الخواء علماً فوق المدينة، كما لو ان قنبلة فراغية هائلة شربت هواءها النظيف وفرّغتها من الداخل. كل شيء بات قابلاً للبيع والشراء. الماضي والحاضر والروح والنضالات والأفكار والمفكرون. تتكاثر الأمسيات والندوات والصالونات والمعارض، ولكنها تتحوّل جميعها الى زينة أو فولكلور. ذلك لان العمود الفقري للمدينة قد انهدم، والكلام الذي يهدد غداً بلا مذاق ولا نكهة، لانه بدا شبيهاً بوليمة في يومها التالي. استبدلت المدينة ثقافة القلب بثقافة المعدة. وطفت على السطح ثقافة الغرائز والإعلان التلفزيوني وطرب المرابع الليلية وهز البطون والأرداف. وحين تعلن بيروت عاصمة للثقافة العربية يهلل أكثر من يهلل الذين وأدوها بالذات، أما نحن فنصدق الإعلان لانه يذكرنا بالماضي ويجيئنا محمولاً على رياحه متناسين ان التسمية ليست سوى تقليد دوري منحته الأونيسكو من قبل لكل من القاهرة وتونس والشارقة وستمنحه لاحقاً للرياض والكويت وسائر العواصم، لا لشيء الا لحضِّ المياه الآسنة وتحريض هذه العواصم على القراءة في ظل التفشي المريع للجهل والأمية. والمؤلم في الأمر ان العهود والحكومات المتعاقبة التي تختلف حول الإعمار والدين العام ومعدل الفوائد وحول الجدارة والنزاهة لا تتفق الا في شيء واحد هو تغييب الثقافة، ما لم تستطع تدجينها بالطبع. والا فكيف نفهم ان يتعاقب على سدة وزارتها من لا علاقة لهم بالأمر ومن لا يتصلون بالمسرح الا عبر "الشانسونييه" والتهريج ومسرح الساعة العاشرة، وبالشعر إلا عبر منابر الزجل والخطابة والشعارات المنظومة، وبالموسيقى إلا عبر الدرابك والدفوف والطبول التي تحول ليل المدينة الى غابة من الزعيق الأرعن. تعلن بيروت عاصمة ثقافية وليس فيها بيت للشعر، على غرار ما فعلت الرباط وتونس والشارقة، ولا متحف للفنون التشكيلية، ليس فيها مجلس أعلى للثقافة ولا هيئة عامة للكتاب ولا دار للأوبرا كما هو الحال في القاهرة، شقيقة بيروت الكبرى وتوأمها في النهضة. تعلن بيروت عاصمة ثقافية من دون ان يستشار كتابها وشعراؤها ومبدعوها الحقيقيون في أي مسألة من المسائل، في حين تدرج الأنشطة والندوات والبرامج الدورية للأندية والمجالس والجمعيات الثقافية داخل الكتيب الخادع الذي أصدرته وزارة الثقافة وفي اطار الحدث أو تحت عنوانه. غير ان المشهد ليس قاتماً بالكامل كما في جانبه الرسمي. فبيروت هي ثمرة أعمار ولقاء إرادات ووعد يجدد عهده مع المستقبل، هي الروايات الرائعة التي جادت بها في السنوات الاخيرة ذاكرة الذين يرفضون النسيان وهي الشغف الساحر في مخيلات الشعراء والرسامين والمسرحيين والمغنين الذين يملأون فراغ السياسة ويجدون مواطئ لأحلامهم خارج القصور والسرايات وجوائز الترضية. هي استماتتنا الدائمة من أجل هامش الحرية الذي انتزعناه بالدموع والأظافر، وهي أخيراً نشيدنا الجسدي المقاوم الذي نطأ في ضوء رصاصاته الواثقة عتبة القرن المقبل. * شاعر لبناني.