ربما ينسى القارىء بعد حين مجلة «جسد» التي أصدرتها الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، ولكن الذاكرة الأدبية لابد أن تحتفظ بها كتاريخ بين تواريخ لبنان الثقافية. فالمجلة غير مسبوقة عربيا كما ورد في مقدمتها، مع أن عبد القادر الجنابي الشاعر العراقي المقيم بباريس سبق أن أصدر مجلة نهاية السبعينيات أطلق عليها اسم «الرغبة الإباحية» وبعض صور «جسد» ومواضيعها تذّكرنا بها. لم يقيض للرغبة الإباحية الاستمرار، فقد صّد عنها الأدباء العرب واعتبروها بدعة ودعاية وتقليداً غربياً. في حين كانت علتها ان كل مواضيعها أدبية، كما أنها صدرت بجهد فردي، وهي فوق هذا وذاك من صناعة رجل وفي مكان هلامي مثل باريس. إذن للبنان هذه المرة حكاية جديدة مع الرغبة التي تتعدى نفسها لتتحول قولا للمرأة التي كانت موضوعها. مجلة «جسد» تصدر بتمويل فردي، عن شركة الجمانة للنشر والترجمة والاستشارات الأدبية، ولكن اسهامات عدد كبير من الكتاب اللبنانيين والعرب أضفت عليها طابع الجهد الجماعي، وهي بتشعبات مواضيعها وملامستها الكثير من العوالم الخفية التي تحيط بالجسد، يمكن اعتبارها النذير الفصيح لثورة ثانية يشهدها لبنان والعالم العربي، بعد تلك الثورة الخجولة التي حصلت في الستينيات وعلى يد القصاصات ليلى بعلبكي وغادة السمان. كانت النوايا هذه المرة على بينّة من أمر التحدي، لأنها تذهب بعيدا في اجتياز الخطوط الحمر،ولا تقتصر على مشاغبتها أوالالتفاف عليها. انها تتفاصح في مفهوم الإثارة،فتفرد صفحات لما يسمى اعتباطا عروض السرير، كما تفسح حيزا للفيتشية، وتعريفها البسيط (تبجيل أشياء المحبوب) والكانيبالية أو أكل لحوم البشر، وقد صعق الأوربيون عندما اكتشفوا قبل سنوات قليلة بين ظهرانيهم مجانين من هذا العيار، يأكلون لحم عشاقهم. حار الأدباء اللبنانيون في أمر مجلة «جسد»، ولا من أديب خرج على صفحات السطور برأي يرحّب أو يستنكر العدد الأول، بل أسهم فيها الكثير من الشعراء والكتاب، كل حسب قربه من المشروع وقناعته به. ولكن وفي الجلسات الخاصة، بعضهم يلوي شفتيه ويصمت، وآخر يهلل لصدور هذا النوع من المطبوع، ولا يجرؤ واحد منهم القول أمام المجموع إنه أقل حداثة من سواه، لأنه والحالة هذه، لن يغدو أديبا لبنانيا. تبقى لبنان بين كل الدول العربية بلد الكلمة الحرة دون منازع، وبيروت اليوم لمن لا يعرف، في عزّ كمالها، مع كل اضطرابها السياسي والأمني، وهذا يجعل لمجلة «جسد» قيمة مضاعفة. قد يختلف الناس في نوع عروضها، ولكنهم يتفقون حول المغزى الرمزي لتوقيت ظهور المجلة. تسجيل آراء الأدباء اللبنانيين حول المجلة، لا يعني فتح تحقيق حول مفهوم الحرية الصحافية في هذا المكان، فهو أمر متفق عليه، بل يتضمن رغبة في متابعة بوصلة الخطاب الثقافي في معاصرته للثورة الإعلامية، ولصناعة الثقافة الجديدة، وهما مترابطان على نحو لايمكن فصله. وهكذا كان بمقدورنا أن نخرج بحصيلة تمثل استجابات سريعة وعفوية، أشبه بسمر المقاهي، ولعلها أقرب الى الصدق من ديباجات النصوص المتضمنة اعتبارات ومواقف مسبقة. صرعة أم بدعة، ابتكار أم تقليد جاءت الفكرة في وقتها، كما تقول الروائية علوية صبح، وأنا أرفض المواقف العدائية التي تصدر من بعضهم ضد هذا المشروع، فهو مشروع حداثي بعد الخروج من عصر الايديولوجيات، وبعد انهيار مشروع الحداثة السابق، وأعتقد إن بمقدور الأسئلة الثقافية أن تذهب الى مطارح جديدة، غير التي كانت عليها في السابق. سؤال الجسد هو سؤال معرفة الذات وعلاقتها بالاخر، وهذه التجربة تحمل قلق انفتاح الثقافة على الحياة والجسد الذي أُهمل عربيا، ولهذا بدت عيوب المجلة وحسناتها واضحة للعيان. ليس هناك من نمط محدد للمعرفة، كما تستطرد صبح، لهذا أنا أرحب بهذا المشروع، وأقول إننا بحاجة الى اتساع الأفق المعرفي كي يتخطى الجهل والتابوات. ثم تستدرك، بالطبع انا ضد الابتذال، في السياسة والجنس وفي كل شيء، فالمعرفة ليست مكانا لرمي أوساخ الحياة، اننا نحتاج الى اكتشاف أجسادنا وكلما توسع أفق ذلك الاكتشاف كنا احرارا. اما البورنو فهو عندما يتحول الى كليشات يفقد طابعه الانساني ويمضي الى امتهان القارىء. وفي الصلة بين هذا المشروع وجرأة الشاعرات والروائيات في الخوض بأمور الجسد، تعتقد صبح أن كل تلك الكتابات التي تخطت التابوات، بما فيه روايتها (مريم الحكايا) كانت التمهيد لظهور هذه المجلة. ولكنها لا ترى صلة بين هذه المشاريع، وما كتبته الأديبات في الستينيات ومنهن ليلى بعلبكي في (أيام معه)، فقد طرح مشروع حرية الفرد والجسد في ذلك الوقت، وكأنه استنساخ لتجارب فرنساوية، وسرعان ما تبعثر وراح ضحية إزدواجيته، في حين ما يكتب اليوم عن الجنس يتعدى التقليد الى الابتكار. ولكن ما هي حدود الابتكار في هذا المشروع ومدى شرعية التشّبه بمشاريع غربية نشأت في بيئات مختلفة؟ نقلنا السؤال الى شوقي عبد الأمير الشاعر والمترجم عن الفرنسية، الذي قال إن في باريس مجلة تصدر منذ فترة طويلة تحت هذا العنوان تحديدا (جسد)(corps) ولكنه يعتقد أن مواضيعها أكثر عمقا من المجلة اللبنانية، وهو لايرى ضيرا في غايات «جسد» العربية، فالمجلة مبادرة في وجه التخلف، وهي تستأهل الكثير من التشجيع. ولكن ينبغي ترك قضية الأسبقية جانبا في الحديث عنها أولا، والتخلي عن فكرة الاستعراض والدعاية، فالجسد ليس جنسا فقط، قاريء المجلة يخرج بانطباع يتحدد بكون الجسد هو الجنس فقط في حين الجسد ثقافة تتعدى هذا. مفهوم الجسد وقضاياه ومشاكله ونوازعه وشبابه وهرمه يحتل في وعينا ووجودنا أكثر بكثير مما نلتفت اليه من أمور اخرى في كلامنا اليومي، هذا ما يقوله حسن داوود الروائي اللبناني، فموضوع الجسد كما يرى يحدد مشكلة التواصل بين الناس، حتى العشاق قد يعانون من هذه المشكلة الإنسانية وهم في سرير واحد. ومع أن داوود يعتقد أن اقتحام هذا المجال ضرورة، بسبب أهميته الفعلية في حياتنا، ولكنه ايضا يرى ان هناك ما هو جدير بالتفكير عندما نكتب عن الجسد، وهو تلك الحميمية السرية التي تعود الينا وحدنا، وتخصنا ولا تخص الآخرين. انه يتعلق بحريتنا في ان تكون لنا مساحتنا التي لاتنتهك، وهذا ما لم أجده في مجلة «جسد» كما يقول، فهي تقتحم كل شيء، بل هي تنتهكه في مواقع كثيرة. الذي اعجبني فيها طليعيتها وجرأتها، ومع انني لم أقرأ كل ما فيها، غير انني أرى أن الميل الى الاستعراض يقلل الجانب البحثي والعلمي فيها. لقد اكتشفت من خلال المجلة ولعي بأقدام النساء، وهو موضوع في غاية الجمال قرأته بشغف، ولكن مواضيع البورنو ونصائح المتمرسات بدت لي غير مستساغة. الكثير من الأدباء يتحدثون عن الصور الصادمة في المجلة، ومواضيع البورنو فيها، وبول شاؤول الشاعر الذي يرى في المجلة مشروعا مقتحما سياسيا واجتماعيا، ومحاربا في عصر الظلام الذي يلف عالمنا، يقول لو ان المجلة تخلت عن بعض الصور والمواضيع لكانت افضل بكثير، فهي كما يرى تحمل رسالة لكل من يريد ان يقصي المرأة عن الحياة، ولكنها ينبغي ان تكون حذرة وتتجنب ما يخل برصانتها وعلميتها. ولكن كيف لنا التوفيق بين الرصانة والجنس، وهل العلمية او الموضوعية تخرجان الجسد من مرح الاحتفال بطقوسه. ألا تقتضي الحميمية، والجسد يمثل الصلة الأوثق بها، ان تكون الأشياء على ماهي عليه، غير خاضعة لقواعد اللعبة الاجتماعية؟. لابد هنا من التذكير بأن الصور المنشورة في مجلة «جسد» وقبلها «الرغبة الاباحية» حظت بقدر كبير من الاستنكار في أحاديث المثقفين. الصور في أدب الحب، أصلح ناقل للهوى، حسب تعبير فوكو، ومغامرات فينوس تفقد الكثير من سحرها في الظلمات. على هذا تشكل الصورة خطورة على الحب نفسه الذي قد تؤذيه وقاحتها او بشاعتها. ولكن الأدباء المحتجين يرون في تلك الصور والمواضيع الجريئة، ما يشبه الخيط الناظم بين مجلة الرصيف الجنسية، ومجلة تعتني بآداب الجسد. ولعل هذا الرأي يحمل الامكانيين عند قراءته، فهو يفصح عن طبع محافظ يهمل ما أضافه الانترنيت الى حياة الناس، او هو ذريعة لمحاجة تخص حدود الحرية ذاتها، التي ترى صاحبة المشروع جمانة حداد انها لا تتجزأ. تقول حداد، التي ترفض أن يؤخذ كلامها في باب الدفاع لأن مجلتها، على قولها، ليست في حاجة إلى محامي دفاع، إن غالبية ما نشرته في المجلة من صور هي أعمال فنية لفنانين معروفين، عرب وغربيين، وتستغرب تاليا هذا الاستنكار من جانب مثقفين يفترض أن يكونوا مطلعين على عالم الفن وانتاجاته. اما ما ورد فيها عن البورنو، تؤكد، (فقد عرضتُه في اطار معالجة هذه الصناعة السينمائية من جانب نقّاد سينمائيين عرب. وأنا لست بنادمة بتاتا على الصور ولا على ما ورد في المجلة من مواضيع، وأعتقد أن ثمة قدراً كبيرا من الخبث والسكيزوفرينيا في التعاطي مع هذه المسألة، خصوصا وأن أكثر كلمتين يتم البحث عنهما على الانترنت باللغة العربية بحسب احصاءات غوغل هي «جنس» و«بورنو»، مما كان يقتضي مناقشة هذه الظاهرة). وتتحدث حداد عن منطق المجلة القائم، إلى جانب الأقسام الفنية والأدبية، على ثلاثة ملفات رئيسية: الملف الأول يقدم الجسد بحضوره الايروتيكي، والثاني بتمثلاته الاجتماعية، والثالث يقدم الجسد الانتي استيتيكي، المثير للرعب، ببشاعته وممارساته المتوحشة، ومن بينها الكانيبالية التي تمت معالجتها في العدد الأول، والعنف الزوجي الذي يعالج في العدد الثاني. وتضيف حداد: «من المستغرب إذاً أن تعتبر المجلة مجلة جنسية فحسب. طبعاً الجنس هو أحد مجالاتها، فنحن لسنا كائنات أثيرية بل من لحم ودم، ولدينا شهوات وحاجات. ولكن المجلة تتناول الجسد أيضا في تمثلاته الأخرى. رغم ذلك، ثمة من يصر أن يرى فيها الجنس فحسب، وهنا يكمن العيب في الناظر للأسف، لا في المنظور إليه». أما في ما يتعلق بمسألة الأسبقية، فترى حداد أن الحديث عن هذا الأمر هو خروج على الموضوع، «لأن المجلة في صيغتها ورؤيتها ومعالجاتها فريدة من نوعها ولا تشبه أي منشور آخر، وهذا أمر يتضح سريعاً لكل من يطلع عليها. لكن الموضوع الحقيقي ليس هذه الأسبقية أو عدمها، التي يقع الحديث عنها في باب الاثارة السطحية، بل هو المجلة في ذاتها، وما تقدمه من طروح وأفكار هي في رسم المناقشة. ولكن لماذا تلك المواضيع الصادمة، وهل هي ضرورة للثقافة العربية؟ ترى حداد ان الثقافة تقتضي مناقشة كل ما هو موجود حولنا، وبرقي وعمق، دون ان نهمل المواضيع الصادمة أو نلتف حولها. فتجاهل تلك المواضيع هو نوع من الاختباء وراء الأصبع. القارىء العربي كما تقول، يُعامل من قبل بعض الكتّاب والسلطات باعتباره قاصرا، وهذا شيء مهين للعرب. مهين ان نعتبر ان مجتمعنا غير مستعد لثقافة الجسد، فنحن موجودون في قلب العالم، ونعيش عصر الفضائيات والانترنت، وكبسة زر على الكومبيوتر تكفي لكي نطلع على كل شيء. كفانا احتقارا للانسان والقارىء العربي، وكفانا استهتارا بإدراكه ووعيه. ثم على من يستنكر أن يعود الى تراثنا الأدبي العربي ويقرأ ما يرد فيه من أعمال تحتفي بالجسد منذ قرون، قبل أن يعترض على هذا المشروع. جمانة حداد تراهن على مشروعها الوليد الذي ترى أنه سيحقق نجاحا غير مسبوق بسبب طليعيته، فالادب المكتوب سابقا عن الجسد في العالم العربي هو تمهيد لهذا المشروع، وهي ترى أن شعرها الذي يدور حول هذا الموضوع يأتي ضمن سياق هذه القاعدة التي تهدف عبور بوابات الخوف ورعب النساء من أجسادهن. هل تتجه الثقافة الحديثة، وفق معيار مجلة «جسد» وسواها من المشاريع التي تتعلق بثقافة جديدة وصناعة أدب جديد، نحو مسيرة تعاكس مسيرتها السابقة، حيث سعت الى انفصال الانسان عن الطبيعة وتقليد الحيوان؟. علينا والحالة هذه تذّكر فرويد حين رأى ان الثقافة بدأت عندما صاغت العائلة والجماعات البشرية نظام التحريمات مخالفة الطبيعة البشرية، حينها ظهرت الرغبات المكبوتة وراء الوعي، ومنها تشكلت أمراض الحضارة : انفصام الشخصية والهستيريا والجرائم وسواها من العلل النفسية ومن يعرف خفايا الانترنيت ومواقع العروض والطلب فيه، سيجد أن كل الحروب حول المال والجنس تغيرت أشكالها ولكن نظم سيطرتها وإدارتها بقيت تتشابه. وفي كل مرة كانت المرأة ضمن أدوات السيطرة، ولكنها عندما تستخدم نظامها الخاص تغدو لقصة الثقافة نكهة أخرى.