اتسمت الحال في كوسوفو، خلال السنوات العشر الاخيرة، بغياب مجالات التقويم الموضوعي، نتيجة تباين البيانات الصادرة عن الاطراف المحلية والدولية المشاركة في النزاع. الا ان هذه المعلومات، مع تناقضاتها، بقيت المصدر الوحيد لمتابعة الوضع. وتفاقم هذا "التجاوز على الحقائق" مع عمليات التهجير التي بدأت وأصابت الألبان، ثم، منذ مطلع العام الجاري، عندما تصاعد الصراع المحلي وتزايد التدخل الخارجي في مشكلة الاقليم، والذي وصل الى ذروته مع عمليات الحلف الاطلسي التي لازمتها دعاية اعلامية مكثفة، لم تقتصر على مسار الحرب وانما شملت ايضاً كل ما له علاقة بأهدافها. وانتشر الحديث عن محنة مليون لاجئ الباني، وهو الرقم الذي شكك فيه البعض قائلاً إنه لا يتجاوز نصف ذلك. وفيما قدرت المساعدات التي ينبغي توفيرها لاعادة اعمار كوسوفو بما لا يقل عن 30 بليون دولار، اوضح مسؤول منظمة الامن والتعاون في اوروبا ان المبلغ لن يتجاوز 6 بليون دولار بما فيه متطلبات الادارة المدنية الدولية لمدة خمس سنوات. واشيع ان جيش تحرير كوسوفو يملك 40 ألف مقاتل، وظهر عندما تم تحويله الى "فيلق حماية" 21/9/1999 ان العدد ينحصر في عشرة آلاف و600 فرد غالبتيهم انضموا اليه بعد الامكانات الواسعة التي توفرت له للسيطرة على الاقليم في اعقاب انتشار القوات الدولية، حسب ما اعلنته المنظمة الدولية للهجرات في بريشتينا. وازاء هذا الامر في مجال التقويم، فان حال غير الألبان من السكان، كما تتحدث المصادر الصربية، تشير الى انه منذ انتشار القوات الدولية قُتل اكثر من 400 شخص بينهم 36 البانياً يعارضون الانفصال عن يوغوسلافيا، واختُطف 462 آخرين، وهدم 70 مبنى تراثياً صربياً، وتم احراق ما لا يقل عن 50 ألف منزل وطرد 250 الف صربي و9 آلاف غجري و50 الفاً من اعراق اخرى بمن فيهم الألبان الذين ظلوا على وئام مع السلطات الصربية. وعلى رغم ان هذه الارقام تدخل ضمن المبالغات التي اصبحت مألوفة، الا انها تعطي الدليل على ان "دورة العنف" تواصل تحركها من خلال الارقام والوقائع على السواء، من دون ظهور ما يشير الى انها ستضع اوزارها تلقائياً. وفي كل الاحوال، فان هناك اتفاقاً عاماً لدى الاطراف المحلية والدولية، حول وقوع حوادث قتل واختطاف يومية كثيرة في كوسوفو، خلال الاشهر الاربعة الاخيرة. وهو عدد يزيد كثيراً عما حصل من عنف في اي وقت قبل الغارات الجوية الاطلسية 23/3/1999 على يوغوسلافيا، شريطة أن نستثني من العنف أعمال التهجير الصربية التي نزلت بالكوسوفيين. واعتماداً على ما افاد به مسؤول الادارة المدنية الدولية برنار كوشنير فان "نحو 97 الف صربي و75 ألف شخص من الاقليات الاخرى الغجر والأتراك والبوشناق وغيرهم لا يزالون في الاقليم". ومعلوم ان عدد غير الالبان في كوسوفو كان، وفق الارقام الصربية، في حدود نصف المليون قبل العمليات الاطلسية. ويرد المراقبون هذا "التطهير العرقي" المضاد الى الجماعات الانفصالية المتطرفة التي يمثلها "جيش تحرير كوسوفو" الذي صار "فيلق حماية كوسوفو" الالباني، وهي اعمال صدرت بشأنها التحذيرات الدولية، فيما اكد القائد الجديد لقوات حفظ السلام الدولية الجنرال الالماني كلاوس رينهارد، في اول تصريح له بعد تسلّمه مهماته، تصميمه على استخدام اقصى الحزم في القضاء على العنف. ويتضح مدى "تمادي" الجماعات الالبانية التي ظلت تملك انواع الاسلحة، في العنف، من خلال التهديد الذي وجهه قادة "فيلق الحماية" المدني المجرّد من السلاح رسمياً في منطقة درينيتسا وسط الاقليم 8/10/1999 الى الوحدات الروسية في المنطقة بأنها ستهاجَم إن لم تُخل سبيل شعبان شالي من قادة الفيلق في المنطقة الذي اعتقله الجنود الروس عندما جاء الى نقطة تفتيش لهم، وهو يلبس زي جيش تحرير كوسوفو ويحمل شعاراته، كما تحدّاهم بأنه "سيرتدي هذا الزي كلما مرّ على نقاط روسية". وبعد ثلاثة ايام على عمل الجنرال رينهارد، وقبل يوم على بدء زيارة الامين العام للامم المتحد كوفي انان 13/10/1999 التفقدية لكوسوفو، قُتل ما لا يقل عن ثلاثة اشخاص احدهم فالنتين كروموف 38 عاماً، اميركي من اصل بلغاري الموظف في الادارة المدنية الدولية الذي انهالت عليه سكاكين وطلقات مسدسات شبان البان وسط بريشتينا، في مكان لا يبعد الا عشرات الامتار عن مقار كبار المسؤولين الدوليين، العسكريين والمدنيين. وكان كل ذنبه ان الباناً سألوه عن الوقت فنظر الى ساعته واجابهم بالانكليزية، ولما لم يفهموا، ردّ عليهم بالبلغارية، فاعتبروه صربياً "يستحق القتل". وادى الحادث الى دفع انان الى التردد في تنفيذ زيارته، ما حدا بالقوات الدولية الى فرض منع التجول في غالبية مناطق الأقاليم. والسؤال: اذا كان القتل بهذه البساطة، وعصراً، ووسط بريشتينا، فكيف لغير الألبان العيش ان يعيشوا في الاقليم؟ واين هو الامن الذي تحقق للسكان مع وجود معلومات مؤكدة بان غالبية الالبان ما بين العاشرة والسادسة عشرة، يحملون مسدسات؟!