مئة عام مضت على نشر كتاب قاسم امين "تحرير المرأة" الذي قوبل وقت صدوره بنقاش واسع بين مؤيدين ورافضين، ولا يزال يثير الجدل حتى وقتنا هذا. وفي هذا المقال سنركز على الكتاب من منطلق موقعه في السياق التاريخي لبداية النهضة والارهاصات المصاحبة له والنتائج المترتبة، وذلك من خلال مقارنته بكتاب سابق عليه بأربع سنوات وهو "الاكتراث في حقوق الاناث" الذي ألفه محمد بن مصطفى بن الخوجة الجزائري العام 1895م، وكذلك كتاب الطاهر الحداد التونسي الذي جاء تحت عنوان "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". صدر كتاب "الاكتراث في حقوق الاناث" سنة 1895 اي قبل كتاب قاسم امين بأربع سنوات، في حين صدر كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" العام 1929 اي بعد ثلاثين سنة من صدور كتاب قاسم امين. وكما نلاحظ فإن عناوين الكتب الثلاثة آخذة في التدرج والتطور، فمن مجرد الاهتمام بحقوق الإناث في كتاب مصطفى بن الخوجة الى تحرير المرأة في كتاب قاسم امين الى تحديد وضع المرأة وموقعها داخل الشريعة والمجتمع عند الطاهر الحداد. غير ان هذا التطور في العناوين لا يتطابق مع محتوى الكتب، خصوصاً كتابي "الاكتراث في حقوق الإناث" و"تحرير المرأة"، وربما يعود ذلك الى الوضع الاجتماعي آنذاك الذي لم تكن فيه المرأة تشكل قوة حقيقية. ومهما يكن الامر، فإن الكتب الثلاثة تتحرك ضمن مجال المرأة بالدعوة الى تحصيل حقوقها اعتماداً على قضايا جوهرية ثلاث التقت حولها واختلفت في تفصيلاتها، وهي: صدمة الغرب للعقل المسلم، والتحرك داخل دائرة الإسلام، ومخاطبة المجتمع الرجالي. وفي القضايا الثلاث تلك كانت المرأة، ولم تزل، هي لُب النقاش الدائر سواء كموضوع وقضية او كمنبع ومصب، ما اعطى صورة عن ان الكتب الثلاثة هي مجرد رد فعل ولم تكن فعلاً. فهي رد فعل على مفاهيم الغرب نصاً او استعماراً، وهي رد فعل على الفهم المتخلف للاسلام ومحاولة الاستعانة به، وايضاً رد فعل من النخبة على الثقافة الرجالية السلطوية. وفي ردود الافعال هذه كانت المرأة هي القضية الاساسية لتصفية الخلافات حول دفع المجتمعات نحو التطور والتمدن. بالنسبة الى القضية الاولى وهي "صدمة الغرب للعقل المسلم"، نجد ذلك واضحاً في تأثر مصطفى بن الخوجة الجزائري بثقافة فرنسا وسيطرتها، وبالتالي اعتبار نساء الافرنج احسن من النساء العربيات المسلمات. فمثلاً هو يشير الى ان نساء ذلك الزمن كن يستنجدن بالدجالين واصحاب الخرافات والمشعوذين المنتشرين في كل مكان، ويذكر ان الخلافات بين الزوجين سببها جهل الرجل والمرأة معاً. لكنه ركز على جهل المرأة في تحيز واضح، وذهب الى مقارنتها بنساء الافرنج اللائي لا ينهجن مع بعولتهن مثلما تنهجه المرأة المسلمة، وأرجع سبب ذلك الى "تغذيتهن بلبان المعارف، التالد منه والطارف". يُعد ذلك أمراً طبيعياً بالنسبة اليه، لأن العلم هو الذي يهذب ويؤدب ويقوي نفوس الامم. غير انه وهو يذكر تلك الحالة التي عليها المرأة المسلمة، لا يعلن صراحة تميز المرأة الفرنسية عنها من ناحية حصولها على حقوقها كاملة، ولا يقبل هو نفسه اطروحاته في دفاعه عن حقوق المرأة من انها بعيدة عن المساهمة في بناء الحضارة. يتجلى ذلك في ذكره لعشرات الاسماء من النساء في المشرق والمغرب والاندلس على طول التاريخ الاسلامي. ومن بين الاسماء التي ذكرها نساء معاصرات، مثلما يذكر قراءاته لكتابات الشيخ محمد عبده ويمتدحها ويثني عليها. وبالنسبة الى قاسم امين، فإن الصدمة ازاء الغرب بدت اكثر وضوحاً. وتجلى ذلك في رده على كتاب "مصر والمصريون" للدوق الفرنسي داركور بكتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان "المصريون" في العام 1894 دافع فيه عن المجتمع المصري وعن كفاءة المصريين القتالية وعن النساء وتعدد الزوجات والطلاق والاخلاق والدين والاسلام والتعليم وما الى ذلك من المواضيع. ثم سرعان ما كانت له رؤية مختلفة خصوصاً بالنسبة الى اوضاع المرأة من حيث تربيتها وحجابها وعلاقتها بالأمومة والعائلة، وذلك في كتاب "تحرير المرأة". اما الطاهر الحداد فيوضح موقفه في مقدمة كتابه بقوله: "الناس امام المرأة اليوم فريقان: انصار لها ومعارضون. لكنهم في الغرب غيرهم في الشرق، والفرق بينهم بعيد جداً كالفرق بين امرأتهم وامرأتنا. فهم في اوروبا متفقون على تعليم المرأة وتربيتها، وعاملون في ذلك جميعاً لتقوم بعملها كاملاً في المنزل وتربية الابناء مع تمكينها من الحرية المدنية باستثمار مواهبها في الاعمال الادبية والمادية العائدة بالخير على منزلها او على الثقافة العامة" ص 14. إذن فمن البداية يأتي بالمرأة الغربية كنموذج يريد الاقتداء به. ليس هذا فقط بل انه يرى ان الحكومات الفرنسية في تونس اخذت تستثمر تطور المرأة طبقاً للسياسة التي وضعت اصولها في برامج تعليم البنات المسلمات في المدارس الابتدائية، وانها وضعت طرقاً تراها صالحة لغرضها في تطور المرأة المسلمة كلما رأت الفرصة لذلك سانحة. ويتساءل: لماذا نبقى نحن مبهوتين ذاهلين ازاء هذا التيار الجارف حتى يذهب بنا الى مصبه؟ وعلينا ان نلاحظ انه طرح هذا السؤال في كانون الاول ديسمبر 1929، اي بعد ثلاثين سنة من تطور المرأة وتحصيلها لكثير من الحقوق. ويلاحظ كذلك ان صدمة الغرب للعقل المسلم تزامنت مع استعداد النخبة للقيام بدور ايجابي من اجل النهوض بالمرأة ودفعها لتحصيل حقوقها. لكن هذا المسعى ظل يتحرك ضمن دائرة الإسلام، فأعاد سرد مسألة تعدد الزوجات والحجاب والطريقة التي تتعلم بها المرأة، فهي بالنسبة الى مصطفى خوجة حقوق اكدها الإسلام، وبالتالي لا يقبل تضييعها. لذلك يعمل على التذكير بالعيشة الطيبة بين الزوجين ويبيّن شروطها، كما يسرد حقوق المرأة والنفقة عليها، ويفرق بين الثيب والبكر وحقوق كل منهما سواء تعلق الامر بأجرة الطبيب او بالمسكن او بالنظام المعيشي، وكذلك حقها في التعليم بالذات العلوم الدينية والفقهية. وعلى النمط نفسه يمضي قاسم امين، لكنه يطور المسألة الى المطالبة علناً بتعليم البنات حتى المرحلة الابتدائية، ثم يطور مفهومه لدور المرأة فيطالب بحقها في جميع الاعمال المدنية من منطلق اهليتها، مقارنةً بما حققته المرأة الغربية. ولا شك في انه هنا كان اكثر تطوراً من مصطفى بن الخوجة في دفاعه عن حقوق المرأة، واقل منه مقارنة بالطاهر الحداد الذي يبين حقوق المرأة المدنية مثل اهلية التصرف وحرية الحياة والميراث والزواج وكثير من القضايا الاخرى ذات الاهمية. وهو في كل ذلك يعيد تذكيرنا بما طرحته كتب الفقه، لكن برؤية اوسع وأشمل مبيناً اسباب وخلفيات ذلك. تبقى القضية الثالثة المتعلقة بمخاطبة المجتمع الرجالي. ويلاحظ في هذا الصدد ان الكتب الثلاثة لم تخاطب المرأة بشكل مباشر، وإن كانت خاطبتها من خلال الدفاع عن حقوقها. وهي فعلاً استهدفت تحرير المرأة من سلطة الرجل، لكنها لم تدفعها الى التحرر بذاتها. وبدت في الغالب تصفية حسابات، او لنَقُلْ حواراً واسعاً قوبل بالرفض في الغالب بين تيارات مختلفة داخل الامة. وربما يعتبر مصطفى بن الخوجة اكثر وضوحاً في كتاب "الاكتراث في حقوق الإناث" حين يعترف بأن أحد اصدقائه التمس منه "كتابة رسالة في حقوق النساء عندنا معاشر اهل الإسلام مصحوبة بإيراد بعض آيات وأحاديث، وانه رفض في البداية لكنه بعد إصرار صديقه بادر الى تأليف هذا الكتاب". ومقارنة مع ما ذهب اليه بعض الباحثين، خصوصاً الدكتور محمد عمارة، فإن كتاب "تحرير المرأة" لقاسم امين جاء هو الآخر بايعاز بل وبمشاركة من الشيخ محمد عبده، ما يعني ان الخطاب خلال نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي الذي يوشك على الانتهاء كان من المجتمع الرجالي واليه. والمرأة هنا مجرد موضوع، وإن كانت تحولت الى فاعل بعد عقود من الزمن. لكن اعتقد بأن هذا الجميل الرجالي لا يزال على عاتقها، ولذلك تعيش مرحلة رد الفعل بين تيارين متعارضين لم تستطع التحرك بمنأى عنهما. ومن ثم فهي لم تتحرر بعد على المستويين النفسي والفكري، وإن كانت حققت مكاسب جعلتها شريكاً في كثير من مواقع العمل. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر.