سيطرت مسألتا الحد من المديونية والفقر على أعمال الاجتماع السنوي للبنك وصندوق النقد الدوليين الذي عقد في واشنطن في الشهر الفائت وتم على هذا الصعيد تحقيق تقدم في شأن تمويل مبادرة ترمي الى مساعدة الدول الفقيرة على التخلص من أعباء خدمة الدين التي تمنعها من الانفاق على برامج التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية الأخرى على حساب تحسين مستوى المعيشة. وحملت سيطرت المسألتين المذكورتين على أعمال الاجتماع وتصريحات صدرت عن مسؤولين كبار في البنك الدولي لاحقاً معنى أوسع في اطار سعى البنك الى تشجيع الحكومات على تبني استراتيجية جديدة للتنمية أطلق عليها اسم "اطار التنمية الشاملة". ورداً على سؤال طرحته "الحياة" في مقابلة أجرتها مع مدير قسم الشرق الأوسط في المكتب الاقليمي للبنك الدولي ايندر سود عما تعنيه الاستراتيجية الجديدة للمنطقة أوضح أن: "الرسالة الأصلية لا زالت قائمة وهي أنه اذا لم يكن هناك تنمية اقتصادية فلن يكون هناك خفض في الفقر اذ لايمكن الحد من الفقر من دون تنمية". ولفت الى أن البنك سيستمر في حض الحكومات على المضي قدما في استراتيجياتها الرامية الى حفز عملية التنمية في بلدانها ولا سيما على صعيد القطاع الخاص الى جانب العمل على توازن اقتصاداتها. لكن سود الذي تشمل مهامه ادارة عمليات البنك الدولي في مصر واليمن والاردنولبنانوايران، شدد في الوقت نفسه على اعتزام البنك التأكيد على أهمية التنمية الاجتماعية وقال: "أعتقد أننا سنعمل بالتأكيد على منح مسألة التنمية الاجتماعية ما تستحقه من أهمية… وليس هذا تحولاً بالضرورة لكنه ما نأمل في تحقيقه". وأوضح أن التركيز على التنمية الاجتماعية في اطار الاستراتيجية الجديدة سيتطلب انشاء برامج تتيح ضخ المزيد من الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم أو قطاع التمويل، لكنه رجح أيضاً احتمال اللجوء الى استراتيجيات أكثر تعقيداً مثل برامج "القروض النقدية والتحويلات" المدعومة من قبل البنك والموجهه للفقراء لافتاً في هذا المجال الى البرامج التي اعتمدتها الحكومة الاردنية حين خفضت الدعم عن الطحين والمواد الأساسية الأخرى الذي كان يستفيد منه الفقراء والطبقات الاجتماعية الأخرى، وقال أن اللجوء الى هذه البرامج ربما يصبح ضرورة بتقدم الحكومات في عملية اصلاح قطاعاتها العامة واحتمال تخفيض قواتها العاملة. تحوّل استراتيجي ويعتبر التحول الاستراتيجي في نظرة البنك الدولي الى التنمية أحد نتائج تحول فكري يشهده البنك تحت ادارة جيمس وولفنسون الذي أمضى في ولايته الأولى أربع سنوات فقط وأعيد أخيرا تعيينه لولاية ثانية مدتها خمس سنوات تبدأ اعتباراً من حزيران يونيو المقبل. ودأب وولفنسون منذ البداية الطرق على سندان الحاجة للعمل على الحد من الفقر في العالم عن طريق مساعدة الدول الأكثر فقرا على خفض مديونياتها وكذلك تحسين عملية تنظيم المساعدات الدولية ضمن اطار التنمية الشاملة الذي يمنح أهداف التنمية الاجتماعية أهمية موازية لما تحظى به أهداف التنمية الاقتصادية. وعلى رغم أن منطقة الشرق الأوسط لا تتضمن دولاً تعاني درجات شديدة من الفقر وأعباء ضخمة من المديونية، ربما باستثناء اليمن، الا أن الفقر والمديونية مسألتان لا بد للكثير من دول المنطقة من معالجتهما. وتشير تقديرات البنك الدولي الى أن نسبة السكان التي تعيش من دخل يومي لا يزيد على دولارين للفرد الواحد وهو مؤشر رئيسي تعتمده المؤسسة الدولية في تقويم الفقر بلغ نحو 52 في المئة في مصر و24 في المئة في الاردن. ولا تتوافر معطيات عن الدول الأخرى ولكن البنك يعتقد بوجود "جيوب من الفقر" في هذه الدول. وفي تصنيف أصدره أخيرا عن الدول المدينة أشار البنك الدولي الى الاردن وسورية باعتبارهما يعانيان من "مديونية حادة" لكن سود قال أن المشكلة أكثر تعقيداً مما توحيه الأرقام اذ أعرب عن اعتقاده أن ديون الأردن قابلة للمعالجة وأن مشكلة الديون السورية أقل حدة من واقع أن سورية تدين بغالبية ديونها الخارجية الى الاتحاد السوفياتي السابق، وشدد مع ذلك على أن المديونية تظل مشكلة تحتاج الى معالجة من قبل الدولتين المشار اليهما علاوة على دول أخرى مثل لبنان واليمن. تنمية شاملة ويرمي اطار التنمية الشاملة الى تحقيق الكثير ومن هذا الكثير العمل على تعزيز عملية التنمية وضمان الانسيابية في تطبيق عناصرها عن طريق ازالة الازدواجية من نشاطات وكالات المساعدات الدولية ومساعدة الحكومات في مجال تقرير الأهداف المطلوب تحقيقها علاوة على تعريف الدول المانحة بالأولويات. لكن سود حذر من اعتبار الاطار المذكور بمثابة "مسودة عمل" لأي دولة بعينها وقال: "لسنا بصدد العودة الى سابق عهدنا في اعداد مخططات رئيسية للتنمية، وهذا ماأرجوه على الأقل". وأوضح مسؤول البنك الدولي أن ما يمكن اعتباره "انموذجاً" يشتمل على وضع أهداف ومؤشرات لقطاعات أو مجالات مختلفة على أن تتم صياغة هذه الأهداف والمؤشرات على أساس من الفهم الواضح لاحتياجات البلد المعني، خصوصا في ما يتعلق باحتياجات القطاعات الاجتماعية وقال: "أعتقد أننا أحسنا الأداء اذ نجحنا على الأقل في التوصل الى تحديد المؤشرات العامة للاقتصاد بما يمنح الأهداف الاجتماعية أهمية مكافئة لأهمية الأهداف الاقتصادية". ولفت الى أن ابراز أهمية التنمية الاجتماعية ليس نهاية المطاف اذ لا بد من بذل المزيد من الجهد لإزالة عناصر الغموض، خصوصاً على صعيد التطبيق. وقال: "هل هذا التصور الاستراتيجية الجديدة واضح لنا جميعا؟ لا أعتقد أنه كذلك. وهل أنا متأكد من معرفتي التامة بكيفية وضعه موضع التطبيق؟ لا. ان الموقف الذي أتبناه هو التالي: عونا نجرّب بعض الشيء ولنحاول تطبيقه في اليمن أو الاردن أو أي بلد آخر". وكان مسؤولوا البنك الدولي أشاروا الى أن مشاريع تجريبية يجري حالياً تطبيقها ضمن اطار التنمية الشاملة في 13 بلداً من ضمنها الاردن والضفة الغربية وغزة والمغرب. واعترف سود أن "مسار التطبيق كشف أن الانموذج ربما لا يناسب دولة أو أخرى من الدول ال13" وتحدث في هذا المجال عن احتمال عدم تحقيق نجاح كامل في تطبيق الاطار الشامل للتنمية في الاردن وعزا السبب الى أن البنك الدولي ليس لاعباً رئيسياً في الاردن علاوة على أن "الاردنيين مستقلون في تفكيرهم وليسوا بصدد اللجوء الينا لتنسيق كل مساعداتهم". وأشار في المقابل الى أن اليمن يحاول في ما يبدو انتهاج نهج مماثل لنهج البنك الدولي لكن "تحت شعار مختلف"، وقال ان الوزراء اليمنيين حريصون جدا على وضع خطة تنموية طويلة الأمد تصور 2020 تحاكي التخطيط الاستراتيجي الذي يسعى البنك الدولي الى تحقيقه عن طريق الاطار الشامل للتنمية. لبنان وعلى صعيد آخر أعرب سود عن اعتقاده أن ما يعانيه لبنان من ضعف في مؤسساته أعاق عملية استيعاب المساعدات التي التزمها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وبنوك التنمية العربية ومصادر ثنائية متنوعة تجاهه. وقال "بصراحة يحتاج لبنان الى تنسيق من الطراز القديم للمساعدات". وأضاف على أي حال أن الهدف الحالي للبنك الدولي يركز على مساعدة الحكومة اللبنانية في مجال تنمية قطاعات معينة بخطط "متواضعة" وليس في اطار التنمية الشاملة. وأبدى مسؤول البنك الدولي تحفظات ازاء احتمال نجاح تطبيق الاستراتيجية الجديدة في مصر، وقال ان احدى المشاكل التي يواجهها البنك على هذا الصعيد يتمثل في أن مصر متاح لها الحصول على مساعدات بشروط ميسرة تجعل شروط البنك مكلفة نسبياً، وقال أن البنك يأمل مع ذلك في المساهمة في عملية التنمية في مصر اما عن طريق الفصل بين المساعدات والاستشارات الفنية التي يقدمها أو عن طريق هيكلة المشاريع فتكون تمويلاته صغيرة نسبياً. لكن سود لفت الى ان "الفقر وضرورة خفض أعداد الفقراء يضع مصر أمام مشكلة حقيقية". وساهم البنك في انشاء شبكة للضمان الاجتماعي وبرامج لتمويل المشاريع. وعلى رغم نجاح هذه الخطوات الا أنها، حسب تأكيد مسؤول البنك الدولي، لا تشكل حلاً لمشكلة الفقر. وامتدح المسؤول الجهود التي تبذلها الحكومة المصرية على صعيد النمو السكاني وقال ان "مصر أصبحت واحدة من دول قليلة في المنطقة لديها مؤشرات ديمغرافية أكثر استقراراً من ذي قبل". واعتبر استقرار النمو السكاني أخباراً جيدة لكنه أكد صعوبة المهمة بسبب "تركز التجمعات السكانية في المناطق الريفية والتخوم ما يؤكد الحاجة الى برامج طويلة الأمد تركز على التعليم الأساسي والصحة والنمو الاقتصادي". ويشار الى حجم اقراض البنك الدولي لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفع الى 1.6 بليون دولار في العام الماضي في مقابل نحو بليون دولار في سنة 1997. وتأرجح مستوى الاقراض بين هذين الرقمين في السنوات الأخيرة اعتماداً على احتياجات مقترضين رئيسيين هما الجزائر والمغرب. وأعرب سود عن خيبة أمل البنك الدولي جراء تعذر بدء برنامج اقراض يحتمل أن يكون كبيراً لسورية وأشار الى أن ايران التي يمكن أن تعاود انضمامها الى صفوف كبار المقترضين لا زالت "في حال سبات" على رغم استمرار الحوار بين البنك والسلطات الايرانية. واستبعد في الوقت نفسه احتمال اتخاذ خطوات في اتجاه العراق على رغم تأكيده أن الوضع الحالي للاقتصاد العراقي يشير الى وجود حاجة للاقتراض.