كرّس وجيه كوثراني جزءاً كبيراً من أبحاثه لدراسة تحولات السلطة في المجال العربي الإسلامي، وأنماطها. في سياق تحليله للتجربة السياسة العربية الاسلامية، وأسلوب بناء السلطة وآليات عملها وجذورها الاجتماعية والعصبيات المساندة لها وعلاقة كل ذلك بالاسلام، مستعيناً بمنهجية تاريخية منفتحة على مرجعيات تاريخية معاصرة، وبدرس ابن خلدون في التاريخ، وفهمه لعلاقة العصبيات بنشوء الدول وتطورها وانهيارها، ومن ثم اعادة انتاجها على ضوء بزوغ عصبيات جديدة، وأيضاً لعملية التطور من مثال الخلافة الى نسق الملك، والتعامل الفقهي مع امارة التغلب، وتفكيك مفهوم العلاقة بين الشريعة والسلطة، وبين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، فصب اهتمامه على التحولات الفعلية للدولة والسياسة في علاقتهما بالإسلام، وليس على التأويلات والدعاوي الايديولوجية التي لا تصل الى نتيجة ذات بال. وحاول التقصي عن الكيفية التي تحققت فيها مصادرة السلطة السياسية للولاية الدينية بصورة تدريجية عبر تتالي تجارب الدولة السلطانية، بدءاً من تجربة الدول السلجوقية الى المملوكية والايلخانية وصولاً الى نموذجين متأخرين استكملت فيهما عملية مصادرة الأحكام السلطانية للفقه والفقهاء، هما نموذج الدولة العثمانية السنية، ونموذج الدولة الصفوية الشيعية، حيث تم تأسيس هذه المصادرة في مؤسسات وأجهزة ومناصب. لذا انتقد كوثراني مزاعم الباحثين الذين افترضوا أن هناك اختلافاً جوهرياً، في مجال علاقة الدين بالسياسة، بين التجربتين الاسلامية والمسيحية، الأمر الذي يحدو بالكثيرين الى القول، إن لا كنيسة، ولا رجل دين (اكليروس) في الإسلام.. الخ. إذ يؤكد على وجود استقلال فعلي، في التجربة الفعلية الاسلامية لبناء الدولة، بين المجال السياسي والمجال الديني، فمن خلال رجوعه لمعطيات التاريخ ووقائعه، ودراسته لاجتماعات السياسة فيه، لاحظ أن ثمة ثمانية في السلطة موزعة بين السلاطين والأمراء من جهة وبين الفقهاء من جهة أخرى، بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، بل أشار أيضاً، إنه كما في المجال المسيحي، يمكن أن نعثر في المتن الإسلامي ما يثبت أن الإسلام لا يتعارض مع (العلمانية)، أو أنه لا يقف في وجهها، فالنص الإسلامي يمكن أن يخضع لكل هذه التأويلات، ففي الإسلام أيضاً يمكن اللجوء الى مختارات نبوية وصحابية وإمامية بقصد (التأويل العلماني). منها على سبيل المثال التمييز بين الرأي والوحي، والعودة الى «ميثاق أهل المدينة» السياسي، أو مبدأ لا إكراه في الدين، أو قول الرسول: «أنتم أدرى بأمور دنياكم. والى موقف الإمام علي من مسألة التحكيم إذ حذر من رفع المصاحف منبهاً جماعة معاوية والمعارضين: «إن الخلاف سياسي، والفتنة هي أن نُقحم القرآن في هذا الخلاف». وذكر كوثراني في سياق تأكيده على وضوح التباين بين السلطتين الدينية والسياسية وعلى عدم اندماجهما بأي حال، بأن المجتمعات الإسلامية «لا تختلف في السياقات العامة عن المجتمعات الأوروبية التي سُميّت في القرون الوسطى «مجتمعات مسيحية». بل إن العلاقة بين الدين وممثليه، وبين السياسة وممثليها كانت على الدوام وعبر العصور، علاقة تجاذب الى أن سيطرت الدولة على الدين في التجربة التاريخية الإسلامية سيطرة شبه تامة، لا سيما في الدولة العثمانية والدولة الصفوية. لذا فإنه شعر بالحاجة الى تنبيه القارئ في مقدمة كتابه «الفقيه والسلطان» على ضرورة أن نأخذ في الاعتبار وظائفية العلاقة بين الفقيه المنتظم في المؤسسة الدينية ذات التأثيرات المتشعبة في المجتمع والثقافة والقضاء والتعليم، وبين السلطان صاحب الإمارة العسكرية والسياسية. هذه العلاقة التي يجدها كوثراني لا تختلف كثيراً عما يوازيها في التجربة المسيحية القروسطية لناحية تأثيرها في قيام الدولة وتأسيس شرعيتها الدينية، وتثبيت استمراريتها بفعل دور رجال الدين المنتظمين في مؤسساتها القضائية والتعليمية والثقافية. من هنا ضرورة العودة الى مزيد من الفهم الى التاريخ المقارن في مسألة العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. والحكم الفصل في مسألة علاقة الإسلام بالدولة أو بالحكم، إنما يعود لدى كوثراني الى الممارسة التاريخية للمسلمين والى تجربتهم السياسية، وليس بالوقوف عند حدود استعمال النصوص التي هي بالأساس حمالة أوجه، فيجب أن نقرأ النصوص بالتساوق مع التجربة التاريخية وحيثياتها وبكل ما فيها من تسامي وانحطاط واعتيادي «فالعبرة هي في المنطق التاريخي ومساره واحتمالاته. ولاحظ كوثراني اعتراف الفقهاء بواقعة الانفصال الفعلية بين المؤسسة السياسية في التجربة السياسية الاسلامية وبين ما يسمى السياسة الشرعية المستمد من الاسلام والتي غابت بغياب الخلافة الراشدة وبقيت بعض رموزها وآثارها، ومن يتعلق بها من الفقهاء ورجال الدين، كمثال من المتعذر الوصول اليه، في حين تعاملوا مع الواقع السياسي للخلافة المتحولة الى ملك عضوض باعتبارها واقعاً سياسياً قائماً على ضرورة لا بد منها ومنحوها بعض المشروعية. أما عن العلاقة بين الفقيه والسلطان في الطور السلطاني، فقد استقر موقع الفقيه الوظيفي في حيز القضاء والتعليم مع هامش من الاستقلالية يسمح للفقيه بابداء النصح والمشورة، فحدث نوع من التكامل الوظائفي بين الدولة السلطانية التي تفرض عليها ضرورات السياسة أنماطاً من التنظيم والتدبير، وأنواعاً من الحلول والقوانين، وأشكالاً من الاعراف والتقاليد، من جهة، وبين المجتمع الاسلامي الباحث عن شرعية اسلامية لسياسة الدولة، من جهة أخرى، فيأتي الفقيه ليسبغ عليها نوعاً من الشرعية، بعد أن تمت مصادرة الدولة للدين. فالطابع العام للعلاقة بين الفقيه والسلطان يقوم على نوع من التكامل الوظيفي، الذي شكل اطاراً تأسس في أجهزة ومؤسسات ووسائط سلطوية تقوم بين المجتمع وأهل الدولة، وأهم هذه الوسائط: القضاء التعليم الزوايا الصوفية، ومشيخة الاسلام المستحدثة في العهد العثماني، غير أن هذا لا ينفي ظاهرة استمرارية المفهوم الفارسي للسلطان ووظائفه. «هذا المفهوم الذي ورثه العثمانيون عن السلاجقة ووزيرهم نظام الملك» فغدا التعليم والقضاء، والمؤسسة الفقهية ممثلة بمشيخة الاسلام، بمثابة جسور التلاقي بين الفقيه والسلطان، وقد حرص السلطان من جانبه على تثبيت هذا الحيز من العلاقة مع الفقهاء، وهو حيّز لا يمس استقلال المؤسسة السلطاني. * كاتب سوري