صفاء... دوماً تساءلت لماذا أطلق عليها هذا الأسم... وكثيراً ما اعتقدت أنه سبب عواصف حياتها المستمرة... ربما لو كانوا سموها عاصفة لكانت حياتها صافية. يقولون إن جدتها سمتها كذلك. فيوم ولدت كانت السماء صافية جداً بعد أمطار أغرقت الدنيا، ولكن لم يلاحظ أحد ان الأمطار قد عادت بعد هذا اليوم كحياتها التي ظلت تعصف بها منذ يوم ولادتها. - صفاء! - نعم. - ما بك؟ - ضحكت... لا شيء ماذا تقول لها؟ هل تقول لها إنني أتساءل لماذا سموني صفاء؟. - انظري إلى هذا الإعلان، انهم يطلبون سكرتيرة في مكتب محامي. هل تظنين ان علي أن أتصل؟ - جربي... ولم لا. - لكن ألا تظنين ان العمل في مكتب لوحدي مع محامي قد يكون... لا أدري. - ربما... - صفاء... ما بك لا تجيبين سوى بأجوبة تحيرني أكثر مما أنا محتارة. - لا أدري... ربما ما كان على أهلي أن يسمونني صفاء. - ماذا؟ - لا شيء... اذهبي واتصلي بالمكتب فقد تجدين فرصتك هناك ولن تخسري شيئاً. - نعم سأتصل فلا يعقل أن أظل هكذا... سأتصل، ولكن هل تعتقدين أنهم سيطلبون الاقامة. أخشى أن يطلبوها. ماذا سأفعل ان طلبوها؟ وان لم يطلبوها أخشى أن يعرفوا اسمي ويبلغوا عني. لا... لا لن اتصل. هل يعقل ان أرمي نفسي بمشكلة كبيرة كهذه. ولكن هذا معناه اني سأتخلى عن فكرة العمل نهائياً. صفاء... هل تعتقدين ان علي أن لا أعمل؟ ولكن إن لم أعمل فمن أين سأعيش؟ أخشى أن تطول اجراءات الهجرة أكثر من هذا. سأتصل بهم وأتوكل على الله وليحدث ما يحدث... ولكن ماذا لو كان الله ينوي وضعي في اختبار آخر للصبر؟.. صفاء. - نعم... - أجيبيني بحق الله، هل تعتقدين أن الله ينوي وضعي في اختبار آخر؟.. أوف متى سأتخرج من مدرسة الصبر هذه؟ - مسكينة ابتسام، مثلي، نحن الاثنان مساكين، وكل يوم نرى مساكين مثلنا يجوبون الشوارع بحثاً عن عمل... وهرباً من بدلات زرق، وانتظاراً للهجرة... التي سرعان ما نتأقلم على اليأس منها... والاستمرار بانتظارها لأنها الأمل الوحيد. - صفاء... أنت غير معقولة اليوم. هل عدت مرة أخرى لأفكارك التي لا أفهم منها شيئاً وأشك أنك تفهمينها أيضاً؟ ارجوك... عودي إلى الواقع... ولو لدقائق. أجيبيني هل عليّ أن أتصل بالمكتب أم لا؟ - ابتسام... اتصلي ولا تعطي اسمك فقط اعرفي بعض المعلومات عن الوظيفة وان طلبوا المقابلة اذهبي وقابلي. - وماذا لو طلبوا الاقامة؟ - ليس لديك اقامة... هذا كل شيء. - ولكن سيعرفون اسمي. - اذهبي باسم مستعار ولا تعطي العنوان. - أوف... لا أدري. - لماذا نتصرف هكذا... لماذا نطارد كالمجرمين؟ ما ذنبنا نحن... ذنبنا أننا صدقنا الحلم وذهبنا وراءه. نحن ضائعون... ضائعون. لا نعرف ما يخبئه لنا الغد. متى... متى سنرتاح من رؤية هذه الجدران السوداء ورائحة الرطوبة العفنة؟ متى سنتخلص من سعالنا الذي أصبح ماركة مسجلة؟ فمتى سعلت... عرف الجميع من طريقة سعالك أين تسكن، حتى أنني أخشى السعال امامهم... أمام ذوي البدلات الزرق... لئلا يعرفوا أنني بلا اقامة وانني أسكن في حي الرطوبة كما سماه نزار زميلنا في الحي، ومنتظر آخر لهجرته. - هل تعلمين؟ اعتقد اننا منتهين لا محالة. أشعر أن رئتي لم تعد قادرة على الاحتمال أكثر. انظري الى هذه الرطوبة، يا الهي... تذكرني بالأرضة التي وجدناها مرة على حائط غرفة أخي في الطابق الثاني وكافحناها ولكن سرعان ما ظهرت مرة أخرى في غرفة المخزن في الطابق الأول فاضطررنا لبيع البيت لأنها كانت ستأكلنا ذات يوم. هل تعلمين ان هذه رابع مرة خلال اسبوعين أنظف فيها الحائط ولا فائدة... تسعل انظري إليها. أشعر عندما انظر اليها انها تضحك مني. هل تصدقين انني اسمعها ليلاً تهمس: سأقتلك... سأقتلك. انظري إليها، خضراء، أو زرقاء ربما، يا الهي... ماذا أفعل لها؟ - هناك لا توجد رطوبة، ولا حيطان سوداء. كل شيء كان نظيفاً وجميلاً ودافئاً. لم تكن لدينا رائحة عفن، لكن كانت لدينا الأرضة... الأرضة التي بدأت تأكل أحلامنا. وعندما نغير الحلم كما غير أخو ابتسام غرفته، نجدها بدأت تنخر حلمنا الجديد. كافحناها، وحاربناها حتى هزمنا واضطررنا أن نترك لها أحلامنا لتأكلها وننجو بما بقي من عقولنا. - هل تعرفين يا صفاء، أتمنى يوماً واحداً تحت شمس بغداد في تموز. أنا واثقة من انها ستخرج كل الرطوبة من رئتي. صفاء... هل تعتقدين ان جدران رئتي أصبحت سوداء كجدران هذه الغرفة؟ هل تعرفين أحداً يود أن يشتري رئة عفنة؟ أنا أتبرع. هل تعلمين انها فكرة... لماذا لا أذهب الى المستشفيات بحثاً عن شخص يبحث عن متبرع، بأي شيء، أتمنى أن يطلبوا العقل... فقد سأمته، فليأخذوه هو وأفكاره وجواز سفره. وعندها لن يسألني أحد عن الاقامة، فأنا مجنونة. صفاء... هل تعتقدين اننا نعد من ضمن العقلاء في هذا العالم..؟ ماذا لو كنا مجانين؟ - غداً سأذهب الى السفارة... أرجو أن لا يخيب أملي هذه المرة أيضاً. - على فكرة، اليوم رأيت نزار. يقول انه سمع شخصاً يقول انهم سيداهمون حي الرطوبة ويرحلوننا. يا الهي هل تعلمين ما معنى هذا... معناه ان كل ما دفعناه قد ذهب سدى، واننا سنعود... وحلال عليهم ال400 ألف. ولكن نزار يبالغ أحياناً، أليس كذلك؟.. ولكن ألا تعتقدين حقاً اننا نحتاج لشمس بغداد لتجففنا من هذا العفن. انظري هناك... انظري. أوليس هذا لون الأحمر... هل يوجد عفن أحمر يا ترى؟ لم كان لدي كاميرا لصورت هذا الحائط واشتركت بمسابقة تصوير وأنا واثقة من انني سأفوز بالجائزة الأولى، سأسمي الصورة... فان كوخ البائس... ألا تعتقد انها تشبه لوحات فان كوخ؟ قد يكون هذا اللون الأحمر هو من دم أذنيه التي قطعها، أم تراه مجرد صرصار مات من العفن؟ هل تعتقدين ان دم الصرصار هنا أحمر؟ - كم أتمنى لو كنت صرصاراً... فهو على رغم عيشه في بالوعة الا أنه راضي بعيشته تلك ومرتاح لها، ولا يحتاج الى اقامة أو جواز سفر... أو حتى هجرة. - على فكرة، اليوم وصلت رسالة للشباب من ثائر... من كوالالامبور يقول فيها ان كل شيء هناك أخضر، وان وقف انسان في الشارع أكثر من ساعتين فسرعان ما سينمو عليه الزرع. لا أعرف ما الذي أوصله ماليزيا، ألم يقل انه ذاهب الى رومانيا؟ - ماليزيا، رومانيا، مقدونيا، أي شيء غير هذا الانتظار. - هل تعرفين بمن التقيت اليوم في طريقي الى الصراف؟.. هل تذكرين مها، مها سعيد التي كانت معنا في المدرسة تقول انها تنتظر الفيزا من زوجها بعد أن عقدت قرانها في بغداد بالوكالة... تصوري انها لا تعرفه ولم تره في حياتها، تقول انها لا تعرف ان كان عمره 45 أم 47 عاماً... فهي غير مهتمة ما دام سيعطيها الفيزا... وتقول انه كان متزوجاً من أجنبية ولديه 4 أولاد. ولكنه صحا يوماً من نومه فجأة مكتشفاً بأنه يجب أن يتزوج فتاة من بلده، لتطبخ له، البرياني والدولمة... تخيلي انه صبر 30 سنة بلا برياني ولا دولمة... غريب أمر الرجال. - كل يبيع ما يملكه حتى لو كان شبابه. - أحد أولاده بعمرها... ماذا لو أحبته؟ - لم يعد للحب مكان. كم أنت ساذجة يا ابتسام... آه. فقط لو كنت أعلم من أين يأتي هذا الهواء البارد. - اشتقت لأحمد... ترى أين هو الآن؟ رومانيا، أم ماليزيا، أم جزر الواق واق. لا اعتقد أنه هنا على أية حال... والا لسمعت، فلا شيء يبقى سراً هنا. - وأنا اشتقت لأمي... ولدفء غرفتي. - هل تعلمين انني سمعت مرة أنه تزوج من أجنبية ليحصل على جنسية بلدها... حسناً... المهم انه لا يحبها فقد تزوجها من أجل الجنسية فقط... أليس كذلك؟ - عادت للحب ثانية... هل هناك فتحة ما تدخل الهواء البارد. - صفاء... افكر ان اذهب الى اليمن، فقد سأمت انتظار الهجرة ولا اعتقد انها ستأتي أبداً. أو قد اذهب الى ليبيا. يقولون ان شهادتي مرغوبة هناك. - أي مكان... أي مكان دافئ. - صفاء سعالك يقلقني، انه أقوى من سعالي... اسمعي... لقد قال لي أبو العبد العطار في سوق السكر انك لو غليت المرمية مع الزعتر وشربتها فانها ستقتضي على السعال. - كم اشتهي لحاف جدتي الصوف الآن. - صفاء... يا الهي أنت ترتجفين برداً. خذي... خذي بطانيتي فأنا ألبس الكثير من الملابس ولا احتاجها. - رائحة الشاي بالهيل على الصوبة، وصوت مسبحة أبي. - صفاء... يا الهي... هل أنت بخير؟ سعالك قوي جداً. خذي... خذي هذه الجوارب ارتديها بيديك فهي تدفئها قليلاً. - انه بيان... بيان عسكري... يقول ان الحرب قد انتهت. لا... لا هذا بيان آخر يقول أصبحنا أصلاً لفرع ما، أو ربما فرع لأصل ما. - هل أنت مريضة؟ بماذا تشعرين أجيبيني؟ - أشعر بصوت القنابل والصواريخ في رأسي. - أرجوك لا تمرضي... من أين آتيك بالدواء؟ - دواء، يد أمي على جبيني، وطعم شوربة العدس، ولحاف جدتي الصوفي الدافئ. - تماسكي للغد، لقد دلني نزار على طبيب في مستوصف جامع، يقول انه يأخذ دينار واحد على الكشف. - طبيب... كان أخي طبيباً، لكنه حرر الفاو ولم يعد. - صفاء أرجوك تماسكي، قولي شيئاً... هل أنت حية؟ أرجوك... أين اذهب يا ربي، انه منتصف الليل؟ - منتصف الليل... أنا على سطح المنزل أتأمل النجوم. - صفاء... صفاء... - عدي معي النجوم يا ابتسام واستنشقي رائحة الياسمين وشبو الليل واسمعي ضحكات السهارى... وإن رأيت صاروخاً قولي انه شهاب كبير ليس الا. الساعة الثانية والنصف صباحاً، عمان، 22/10/1998