في مقال خاص أرسله إلى صحيفة "سبق"، انتقد عالم المعرفة الشهير أحمد العرفج الوضع المأساوي والإهمال الشديد في المستشفيات الحكومية، من خلال تجربة شخصية مر بها، برفقة والدته المريضة، في مستشفى الملك فهد التخصصي ببريدة، ظهر هذا اليوم. قال "العرفج": أسمع واقرأ عن رداءة ومهازل المستشفيات الحكومية منها والخاصة، وكلما سمعتُ شيئاً سيّئاً قلت: لعل المتحدِّث أو الكاتب يُبالغ، لأن الأمور لم أكن أعتقد أن تصل إلى هذا السوء، ولكن، وما بعد لكن مر أحياناً، ما سأرويه من مآسٍ محزنة حصل للمواطن الغلبان "أحمد العرفج" الماثل أمامكم في هذه السطور.
وأوضح "العرفج": قبل أيام، دخلت أمي السيدة العظيمة "لولوة العجلان"، إلى مستشفى الملك فهد التخصصي في بريدة، ولن أُطيل في وصف الفوضى، ورداءة المكان، وقلّة النظافة، كما أنني لن أُطيل في "الخُن" الذي وُضعت فيه أمي، بحيثُ لا يتجاوز متراً ونصف المتر × متر ونصف -والله على ما أقول شهيد- في غرفة محشوّة بالنساء المرضى.. كل هذا لن أُطيل فيه، لأنَّه أمر عادي يحدث لكل الناس، ولكن ما سأُطيل فيه هو تلك المسرحية التي أرسلت نسخة منها إلى الممثل القدير "ناصر القصبي" لعلها تكون إحدى حلقات "طاش ما طاش".
وأضاف: تبدأ الحكاية عندما كتب الدكتور المصري النبيل "محمد بدوي" إذناً بالخروج من المستشفى لأمي، وأخذ هذا الطبيب المصري المخلص يكتب التقرير النهائي عن والدتي وهو يقول: يا أحمد، إن معظم هذا العمل ليس من اختصاصي، وإنما من اختصاص الطبيب المقيم أو الطبيب المختص، ولكن أنا مُتعاطف مع حالة والدتك، السيدة الصابرة التي تتحمل الألم، ومن هذا الباب أُخلص في عملي، سألتُ عن الطبيب المقيم قالوا: ليس موجوداً، ثم سألتُ عن الطبيب المختص فقالوا: لا يرد على جوّاله، ثم سألتُ وسألتُ حتى ضِعتُ في متاهة الأسئلة، ولعل البعض لا يعلم أن والدتي -ألبسها الله ثياب العافية- في السبعين من العمر، ولم تعد تقدر على الحركة، بل نُساعدها في الحركة ذات اليمين وذات الشمال، لذلك حين أردنا الخروج.
وأردف "العرفج": سألت: هل النظام يسمح بأن تأتي سيارة لتحمل أمي من المستشفى إلى المنزل، قالوا: نعم، اذهب إلى مكتب الخدمة الاجتماعية.. ذهبتُ إلى هناك فقالوا لي: لابد من إدراج اسم والدتك ضمن برنامج الزيارات المنزلية، فقلت أهلاً وسهلاً، ثم أتى شاب سعودي شهم وأنجز معي تلك الإجراءات الطويلة التي تدرج أمي ضمن هذا البرنامج. أما ما يخص السيارة، فقد وجدتُ شاباً لا أذكر اسمه الأوّل ولكن يحمل اسم "الخضيري"، تحمّس معي، وعرف أنني الكاتب المعروف، ثم أعطاني ورقة إلى قسم الحركة لكي يُؤمِّن لي سيارة، إلى هنا والحكاية ليست طبيعية بل شبه طبيعية، ولكن ما بعد هذا الفصل من المسرحية، تبدأ المهازل.
وتابع: قابلني شابٌ في قسم الحركة، وأخذ أمر حمل والدتي من المستشفى إلى البيت، وقال: تفضّل استرح، ثم تناول جوّاله، واتصل على أحد سائقي الإسعاف التابع للمستشفى، فرد السائق قائلاً: إنني أتناول طعام الغداء الآن، أرجو أن تتصل بعد نصف ساعة أو ساعة؛ لحين الانتهاء من الغداء، ثم قال له صاحبي "الموظف" أن صاحب الطلب يَعز عليَّ، وهو من أحسن الكُتَّاب، ويكتب في جريدة المدينة، ثم مكثتُ في المكتب قرابة الساعة أنتظر، وبعد ساعة ذهب الموظف، وجاء موظف آخر، فسألته قائلاً: إنني أنتظر السائق منذ ساعة أين هو؟ فقال: لحظة سأتصل عليه، ثم اتصل عليه فقال السائق: أحتاج إلى ساعة أخرى لأُكمل طعامي.
وواصل: من لغة الموظف المُتحدِّث عرفتُ أن السائق يَسأله: هل هو قريب لك؟ فقال الموظف لسائق الإسعاف: لا والله، أنا لا أعرفه، إنما هو أحد المراجعين، حينها غضبتُ غضبة عرفجية، وخرجتُ لأشتكي إلى مدير الخدمة الاجتماعية، ولكنه قد انصرف، لأن الساعة الآن قرابة الثالثة عصراً والدوام قد انتهى، مع أنني بدأتُ في الإجراءات منذ الساعة الثانية عشرة، فصرتُ غاضباً أدور في الممرات، ولا أجد إلا موظفين بسطاء لا حول لهم ولا قوة.
واستطرد "العرفج": أثناء الغضب جاء إليَّ الموظف الأول في قسم الحركة الذي طلب منه السائق أن يُمهله ساعة في المرة الأولى، فقال لي: تعالَ أتدبّر معك أمر الإسعاف، وفي نحو الساعة الثالثة والربع جاء الإسعاف، فدخلنا في الفصل الثالث من المسرحية، حيث جاء سائق الإسعاف ويبدو أنه –على الرغم من الساعات الكثيرة التي استغرقها لتناول الغداء- كان غاضباً عبوساً قمطريرا، جاء وأنزل العربة الخاصة بنقل المرضى من سيارة الإسعاف، ووضعها في مدخل الطوارئ وقال: هنا انتهى دوري، فقلت: ماذا أفعل؟ قال: اذهب إلى الدور الثالث حيث تنام والدتك، وبلّغهم ليأتوا لأخذ العربة إلى هناك، لنقل والدتك وتحويلها من سرير المستشفى إلى سرير الإسعاف.
وبيّن "العرفج": صعدتُ إلى الدور الثالث للمرة التاسعة في ذلك اليوم، فقالوا: هناك أدوية لوالدتك؛ حتى تحصل عليها يجب أن توقع هذه الورقة من قسم شؤون المرضى في الدور الأرضي، قالت هذا الممرضة السعودية وكلها غضب وحنق وملل؛ لم تستطع كمية الكُحل السميكة الذي يحيط بعينيها أن يخفيه.
وأكمل: نزلتُ إلى حيث شؤون المرضى، وقال لي الموظف: هل أنت العرفج الذي تخرج في "يا هلا"؟ فقلت: ليس المهم أن أجيب عن السؤال، وإنما المهم أن تخرج أمي من هذه المستشفى لأنها تَعبَتْ وتَألَّمَت كثيراً من الانتظار، حينها وقّع لي بسرعة دون أن ينظر في محتويات الورقة.
وقال: أخذتُ الورقة وصعدتُ إلى الدور الثالث - قسم الباطنية للمرة الحادية عشرة في تلك الظهيرة، وحين وصلت إلى الاستقبال، وجدت أن الممرضة التي معها الدواء قد اختفت، وكأنها الطائرة الماليزية، أخذتُ اسأل عن الدواء، وبعد جهدٍ جهيد أحضرته لي إحدى الفلبينيات.
وذكر "العرفج": بعد أن أخذتُ الدواء سألتُ الممرضة الفلبينية: هل ترسل معي مَن يصعد بالعربة من بوابة الطوارئ إلى حيثُ أمي لتحملها، وبعد انتظار ربع ساعة قالت: إحضار العربة ليست من مسؤوليتنا، قلت لها: ماذا أصنع؟ قالت: تدبّر أمرك بنفسك، حينها ضاقت بي الأرض، كيف وصل بي الحال أن أضع أُمِّي في مثل هذه المآزق التي لا تتحملها؟.
وأوضح: من جماليات المصادفات أن ولدي أختى منى، وهما صالح ومحمد الحميد، كانا معي، وهما شابان تحت العشرين، فقلت اذهبا واحضرا العربة، فنزلا من الدور الثالث إلى الدور الأول، وأخذا يقودان العربة "زنقة زنقة"، و"ممر ممر"، يتوهان أحياناً، ويعرفان الطريق حيناً آخر.. وبعد ساعة وصلت العربة بصحبة ولدي أختي فقط.. وهنا انتهى الفصل الثالث من المسرحية، لأدخل في تفاصيل الفصل الرابع.
ف "العرفج": وكشمن المعروف أنه إذا وصلت العربة أنها تصل عن طريق مختصين وليس عن طريق شابين لا يعرفان شيئاً عن التمريض، حينها كان في الاستقبال -أقسم بالله- أكثر من 11 ممرضة، ست منهن سعوديات من ذوات البراقع، وكل واحدة منهن قد وضعت على عينيها نصف كيلو كحل، ويتحدثن مع بعضهن في أمور لا تخص التمريض، ولا تخص المستشفى، ولا علاقة لها بالمكان، بل إحداهن تعبث بجوالها وأخرى تتبادل أطراف الحديث مع صديقتها التي بجوارها، أما الممرضات الباقيات في القسم فمنهن اثنتان يعملان، والباقيات يتبخترن في المكان بلا أي هدف.
وحكي: اتجهت إلى مديرتهن - وهي سيدة على ما يبدو من الفلبين- وقلت لها: أرجوكِ أمي تعبت من الانتظار ومن أثر المغذي، ومن ألم الإبر، وأريد أن أُخرجها من المستشفى، فيا ليتكِ تُرسلين معي مَن يُساعدنا في حمل أمي من سرير المستشفى إلى سرير سيارة الإسعاف. وقتها: نادت إحدى الممرضات السعوديات وقالت لها: اذهبي إلى الغرفة رقم "5"، ذهبت الممرضة السعودية ثم عادت بعد دقيقة معتذرة، فسألتها لماذا ترفضين فقالت: إن الممرضة تريدنا أن نحمل أمك، وهذا شيء لا نفعله.
وأكّد "العرفج": من تلك اللحظة بدأت أقتنع بأفكار شيخنا "عبدالرحمن المعمر"، الذي كان ينادي بفشل مشروع السعودة في مثل هذه الأمور. لأن السعوديين والسعوديات كثيرو الأعداد قليلو العمل كثيرو الغياب، عدتُ إلى رئيسة الممرضات فقلت: ماذا أصنع؟ فقالت: تدبّر أمرك. وهنا ذهبتُ أنا وأخي الأكبر وأستاذي يحيى العرفج وأختي منى وولديّ أختي، في محاولة لحمل أمي، حينها قلتُ لأخي الأكبر يحيى - وهو خريج جامعة ادنبرة في بريطانيا في الترجمة الفورية- قلت له: تصور يا يحيى لو أخذنا أي مريضة غير أمي، هل يدري عنها أحد؟ فقال: لا والله، لأن المستشفى وإدارته تغط في سباتٍ عميق.
وأشار: في هذه اللحظة دخلتُ أنا وأخي يحيى وأختي منى وولديها صالح ومحمد، ووضعنا تحت أمي لحافاً شديداً لنحملها ونحوّلها من سرير "الخُن" الذي هي فيه، إلى سرير عربة الإسعاف، في هذه اللحظات حنّت علينا إحدى العاملات وجاءت لتساعدنا، فسألتُها عن اسمها حتى أكتب عنها، فقالت أنا حسينة من بنجلاديش فقلت لها: جزاكِ الله خيراً.
ولفت: في الوقت ذاته، كانت إحدى الممرضات السعوديات -من ذوات البرقع والكحل- تنظر إلينا وهي تكتم ضحكتها، وكأنَّها تضحك على أربعة غُشم عُليمية؛ يُحاولون أن يحملوا والدتهم، وضحكتها السخيفة هذه قد أثارت غضبي، ولولا بقية من نُبل في داخلي، لرفعتُ صوتي عليها ووبّختها؛ وقلتُ لها كلمة من الكلام القاسي الذي اشتُهرتُ به، لتكون لها عامل إحباط مدى الحياة.. ومن يلومني في هذا الموقف إذا قلت: إن بعض النساء يُشبهن البقر؟!
وقال: كان اللحاف مربعاً، وأخذ كل منا طرف، في هذا الوقت كنتُ أنظر إلى عين أمي وهي خائفة أن تسقط من بين أيدينا إلى الأرض؛ ونحن ننقلها من سرير إلى سرير، نظرت إليها عدة مرات، لأرى الخوف في عينيها، وأنا أُردِّد في نفسي تَعس هذا الزمان، الذي أرى أمي بهذه الحالة الحزينة دون أن أقدر على أن أفعل لها شيئاً، أطلتُ النظر، وحينها لا شعورياً انطلقت الدمعة من عيني، على الرغم من أنني لم أبكِ في حياتي إطلاقاً، فأنا من أصلب الرجال، وحين سقطت دمعتي استدرت بوجهي حتى لا تراها أختي، لأنني لو بكيت سيسقط الجميع بكاءً، مادام رأس الخيمة في أسرة العرفج قد بكى.
واستغرب "العرفج": لم أعرف الضعف الذي طالما قرأت وكتبت عنه إلا في تلك اللحظة، وقتها أخذ شريط الذكريات يمر بي؛ منذ أن كانت أمي تعطف عليَّ وأنا طفل، وها أنا الآن أراها كالطفلة -ألبسها الله ثوب العافية ومتعها بالصحة-.
وأبان: بعدها تماسكتُ قليلاً وأخذ كلٌ منّا بطرفٍ من اللحاف، ثم نقلناها من سرير إلى سرير، وعيناها - باسم الله عليها-ترتجف خوفاً، ثُمَّ قُمنا بدف العربة نحن دون أن يُشاركنا إلا المرأة التي تُسمَّى حسينة، مررنا من قسم الاستقبال المحشو بالممرضات، فقلت لرئيستهن: انظري لم يُساعدنا أحد، فقالت: بلغتها الإنجليزية: ""Did not care.
وقال: بدأنا نمر بين الأسياب "ممر ممر"، و"زنقة زنقة"، وليس معنا أحد سوى حسينة، التي لا حول لها ولا قوة، حتى وصلنا إلى سيارة الإسعاف وأدخلنا العربة في جوف السيارة، وهنا انتهى دور المستشفى.
وتعجب "العرفج": بعد كل هذه المسرحية دعوني أتكلم قليلاً عن أمي، وعن جيلها المُشَابه لها، فأمي لم تدرس في مدارس الحكومة، ولم تتوظف فيها، وعاشت مدى حياتها مواطنة صالحة تحافظ على الماء والكهرباء، وتدعو أن يُوفّق الله مليكنا المحبوب، وتُربِّي أبناءً صالحين، ليكونوا "أذرع وأيدي" لبناء مستقبل الوطن، بالله عليكم، أمي وصويحباتها ومن هن في مثل سنها، هل يستحققن هذا العذاب وتلك المرمطة؟ لماذا تتفنن وزارة الصحة لإيذائنا وتأليب الناس على الحكومة، أين تذهب تلك المليارات التي تُعطى لوزارة الصحة كل سنة، إذا كانت كل هذه المليارات لا تخدم عجوزاً من عجائز الوطن بلغت 70 سنة؟!
وقال: إنني استحلفكم بالله يا مسؤولي وزارة الصحة، فإن كنتم أمنتم العقوبة والمحاسبة في الدنيا، فإنكم لن تأمنوا ولن تنجوا ولن تفرّوا من حساب الله يوم تأتي كل نفسٍ بما كسبت.
وأضاف: في النهاية أقول: إنه لموقفٍ مبكٍ مؤلم، أن يرى الإنسان أمه، وأعز ما يملك، وهو لا يستطيع أن يُقدِّم لها شيئاً، على الرغم من أنني من أصحاب الفهلوة، ومن ذوي الألسن الطويلة، ومن الذين يُشار لهم بالبنان، وفي المستشفى طلب أن يتصور معي أكثر من شخص، فقلت: عفواً أنا لم آتِ إلى هنا لأتصور، بل أتيتُ لكي أُزيل عن أمي بعض التعب الذي حلّ بها.
وقال: هذا حدث لي، وقد رزقني الله متانة في الطول والعرض والقول والفعل، فما بالك بمواطن غلبان لا يقرأ ولا يكتب، ولا يُركِّب جملتين على بعضهما..؟!
وتابع: قبل أن أختم المقال أقول: ما أكثر أن تأتيني دعوات من وزارة الصحة لكي أزورهم، وأرى إنجازات الوزارة، وهنا أقول لهم: شكراً، لقد رأيتُ إنجازاتكم بعيني، فلا داعي لزيارتكم.
وختم "العرفج" بقوله: كل ما حصل دار في مستشفى الملك فهد التخصصي ببريدة، ظهر هذا اليوم، الموافق 31 مارس 2014م، ما بين الساعة الثانية عشرة حتى الساعة الرابعة عصراً، وأعتقد أن كاميرات المستشفى موجودٌ فيها كل هذه الحقائق.