في منتصف حزيران يونيو الفائت اعلنت طهران احالة 13 من اليهود الايرانيين الى المحاكمة بتهمة التجسس لمصلحة الولاياتالمتحدة واسرائيل. هذا النبأ اثار ضجة في اسرائيل وفي الاوساط الدولية الصديقة لها، فاستنكرت الحكومة الاسرائيلية الاعتقالات والمحاكمات، ونفى جيمس روبن، الناطق بلسان وزارة الخارجية الاميركية، التهمة ودعا السلطات الايرانية الى الافراج عنهم. الا ان هذه الضجة تراجعت نسبياً ولم تعد قضية هؤلاء اليهود ترد على ألسنة الزعماء الاسرائيليين الا بشكل مبتسر وعارض، هذ اذا اشير اليها أصلاً. ففي حديث صحفي شامل أدلى به ايهود باراك، رئيس الحكومة الاسرائيلية، مؤخراً تناول به علاقات اسرائيل الدولية والاقليمية اشار فيه الى العلاقة مع ايران ولكنه تجنب تماماً الاشارة الى قضية اليهود الايرانيين المتهمين بالتجسس. الامتناع عن اثارة ضجة واسعة حول هذه القضية لا يعني عدم الاهتمام بها كما انه لن يستمر بالضرورة الى ما لا نهاية. انه موقف يتأثر بعدد من الاعتبارات منها ما يتعلق بقضية التجسس تحديداً، ومنها ما يتصل بمصالح اسرائيل الاستراتيجية. فعلى صعيد المحاكمات نفسها تبدو ردة فعل اسرائيل الملجومة وكأنها اقرار ضمني بصحة الاتهامات الموجهة الى المتهمين، اذ لو كانت اسرائيل على يقين بأن المتهمين ابرياء لكن حرياً بها ان تطالب، مباشرة او عبر الوسطاء، باجراء محاكمات علنية وعادلة لهم وان يحضر هذه المحاكمات ممثلون عن جهات دولية وان يسمح لهم بمقابلة المتهمين، اي ان تتوفر كافة الضمانات لسلامة المتهمين، ولسلامة سير المحاكمات نفسها. بالمقابل يبدو الاهتمام بلفلفة القضية وكأن الغاية منه ليس فقط انقاذ المتهمين من العقوبات، وانما ايضا انقاذ الاستخبارات الاسرائيلية مجدداً من فضيحة انتهاك سيادة دول اجنبية بعد سلسلة الفضائح التي تعرضت لها في السنوات الاخيرة، مثل المحاولة الفاشلة لاغتيال احد قادة حماس، خالد مشعل في الأردن، والمحاولة الفاشلة للتجسس على لبناني في سويسرا قيل انه على علاقة بحزب الله. صحيح ان اسرائيل نفت الاتهامات عندما اطلقتها طهران، الا ان النفي الاولي لا ينال من صدقية الرواية الايرانية، وهو يشبه ردود الفعل الاولية التي صدرت عن السلطات الاسرائيلية عام 1954 عندما اعتقلت السلطات المصرية عدداً من العملاء الاسرائيليين بتهمة تفجير مركز المعلومات الاميركي في الاسكندرية. وكانت ردة فعل اسرائيل الفورية على الاجراء المصري آنذاك شبيهة بردة فعلها على الاجراء الايراني اليوم اذ نفت الاتهام وحملت على الحكومة المصرية واتهمتها بأنها اختلقت الحادث. وبعد مضي 5 سنوات من هذه الحادثة تأكدت الاتهامات المصرية عندما طفت على سطح الاحداث الاسرائيلية "فضيحة نافون" الشهيرة، وتبين من خلالها ان انفجار الاسكندرية كان بالفعل من عمل عملاء الاستخبارات الاسرائيلية. هناك ايضا الرغبة في افساح المجال امام الديبلوماسية الهادئة علّها تنجح في انقاذ اليهود المتهمين. هذا ما اكده الياهو باشكي - دورون، كبير حاخامي اليهود الشرقيين، عندما قال ان القاء القبض على المتهمين والتحقيق معهم تم قبل اشهر وان عددهم تجاوز ال13، ولكن وزارة الخارجية الاسرائيلية تدخلت لدى الاوساط اليهودية الدينية والزمنية المعنية واقنعتها بضرورة السعي الى "حل القضية بهدوء" اي عن طريق المساعي الديبلوماسية. استطراداً قام الزعماء الاسرائيليون باتصالات واسعة ووسطوا زعماء دوليين عديدين من اجل اقناع طهران بايقاف المحاكمة واطلاق سراح اليهود. ولقيت هذه المساعي تجاوباً لدى غيرهارد شرويدر، المستشار الالماني الذي بادر الى تعيين مندوب خاص له لمتابعة القضية، ولدى توماس كليستيل الرئيس النمساوي الذي اثار الموضوع، نيابة عن الاتحاد الاوروبي، مع الزعماء الايرانيين لدى زيارته طهران خلال شهر ايلول/ سبتمبر الفائت، ولدى الزعيم الاميركي الديموقراطي جيسي جاكسون، وكوفي أنان الأمين العاملهيئة الأممالمتحدة. اخيراً هناك حرص الزعماء الاسرائيليين على الموازنة بين هدفين: الاول مُلِحّ وآني هو انقاذ المتهمين اليهود، والثاني بعيد المدى هو ابقاء الباب مفتوحاً مع ايران بأمل ان تعيد علاقاتها مع اسرائيل الى ما كانت عليه ايام الشاه والى مستوى العلاقات التركية - الاسرائيلية الحالية بحيث يتجدد "حلف الأطراف" الذي طوق الدول العربية في الخمسينات. ان اثارة قضية المتهمين على نطاق واسع قد يؤدي الى تصلب ايراني على هذا الصعيد، فتسبب الضرر لهم بدلاً من تخليصهم من المحاكمات والعقوبات. من ناحية اخرى، فان اثارة هذه القضية بصورة علنية قد يخدم الهدف القريب والملح وهو الضغط من اجل الافراج عن اليهود ولكنه قد يؤثر سلباً على الاهداف البعيدة المدى لسياسة اسرائيل الايرانية. ان مثل هذه الحملة قد تستنفر المشاعر القومية والدينية بين الايرانيين عموماً وليس فقط بين مؤيدي الحكومة الايرانية الحالية فتقوي الرأي العام المناهض لاسرائيل في ايران، وتعرقل الجهود التي تبذلها بعض الاوساط الدولية من اجل حمل طهران على صرف النظر عن تطوير اسلحتها غير التقليدية ومن اجل اقناعها بتأييد "عملية السلام" بين اسرائيل والدول العربية. في ضوء هذه الاعتبارات، يأمل الزعماء الاسرائيليون ان تنتهي قضية التجسس هذه كما انتهت قضية الاسرائيليين اللذين اتهما بالتجسس في قبرص خلال الصيف الفائت، اذ صدرت بحقهما احكام بالسجن لمدة قصيرة ثم اخلي سبيلهما قبل وقت طويل من انقضاء مدة عقوبتهما بعد ان تدخلت واشنطن وعدد من العواصم الاوروبية لمصلحتهما. ولكن ايران غير قبرص، وحكومة خاتمي الاسلامية ليست مثل حكومة كبريانو التي انتقدتها احزاب المعارضة القبرصية لأنها تتبع سياسة "الخضوع السهل والخطر لضغوط الاجانب". ومن هنا فانه ليس من الواقعي ان يعلق الاسرائيليون آمالاً كبيرة على حل لقضية المتهمين اليهود الايرانيين على "الطريقة القبرصية". الاحتمال الأقوى هو ان تتجه الى ادانة المتهمين والى معاقبتهم. ان بعض الزعماء الايرانيين مثل آية الله احمد جنتي، يعتبرون ان أي تعاون في تطبيق القانون الصادر عام 1996، والذي ينص على انزال حكم الاعدام بأي شخص يثبت تجسسه لمصلحة اسرائيل والولاياتالمتحدة، من شأنه ان يؤدي الى "اباحة ايران وأسرارها الى القوى الخارجية". واذا كان هذا الكلام صادراً عن زعيم متشدد فان الزعماء المعتدلين لا يملكون رده اذا ثبت ان المتهمين يتجسسون فعلاً لمصلحة الاستخبارات الاسرائيلية. اذا انتهت المحاكمات الايرانية الى اثبات التهمة على اليهود ال13 واذا اتجهت طهران الى تنفيذ عقوبات قاسية بحق المتهمين، فان الديبلوماسية الاسرائيلية الهادئة سوف تتحول الى حملة عنيفة ضد الحكومة الايرانية. المصادر الاسرائيلية تلوح منذ الآن بمعالم هذه الحملة وببعض وسائلها: الضغط على واشنطن لكي تنفذ بزخم متجدد سياسة الاحتواء ضد ايران بعد ان تساهلت في تطبيقها مؤخراً، مطالبة السلطات الاميركية باعادة ايران الى مصاف الدول الاولى في "مساندة الارهاب الدولي" خاصة بعد ان قدم جورج ترينت مدير وكالة الاستخبارات الاميركية المركزية تقريراً لحكومته يقول فيه ان دعم طهران لحركات الارهاب لم يتناقص، مطالبة البنك الدولي بتجميد مبلغ 200 مليون دولار خصص من اجل تنفيذ بعض المشاريع الحيوية في ايران، اخيراً لا آخراً دعم المعارضة الايرانية في الداخل والخارج والعمل على زعزعة النظام القائم. هذه الاحتمالات لا تغيب عن الزعماء الايرانيين وربما كان البعض منهم يسعى الى تفادي مواجهة تفضي الى تكبيد ايران بعض الخسائر المادية والسياسية. ولكنه ليس من السهل على طهران تلبية المطلب الاسرائيلي، اي لفلفة قضية التجسس. ان التراجع على هذا الصعيد سوف ينال من صدقية الموقف الايراني من "عملية السلام" حيث ان مؤيدي العملية سوف يقولون ان طهران التي تطالب الفلسطينيين بالوقوف في وجه ضغوط الاسرائيليين العسكرية والسياسية والاقتصادية المباشرة لم تتمكن من الصمود امام الضغوط الاسرائيلية غير المباشرة. كذلك فان تلبية مطالب اسرائيل سوف تسيء الى صورة ايران كبلد وصفه كمال خرازي، وزير الخارجية الايرانية، بأنه "لا يرضخ للضغوط التي تطالب بالافراج عن المتهمين اليهود". في مطلق الحالات فانه من مصلحة طهران ان تستعد لمواجهة لكافة الاحتمالات التي تنتهي اليها المحاكمات. اي ان تستعد للمواجهة مع اسرائيل ومع المتعاطفين معها وكأن هذه المواجهة حاصلة فعلاً. فاذا ثبتت براءة المتهمين، تهدأ العاصفة، اما اذا اثبتت المحاكمات التهمة، تكون طهران مستعدة للرد على الحملات المتوقعة. ان الاستعداد لهذه الاحتمالات لا يقضي بالتشدد الداخلي، كما تطالب بعض الاوساط المحافظة في النخبة الحاكمة، بل على العكس، يتطلب الحفاظ على خطوات الانفتاح التي نفذت حتى الآن وتعميقها وتأصيلها. ان الجماعات الاصلاحية التي تستفيد من الانفتاح لن تكون اقل من المتشددين حرصاً على استقلال ايران وسيادتها ومصالحها الاقليمية. في نفس الوقت، فان طهران تستطيع التحضير لمواجهة الضغوط المتوقعة عن طريق علاقاتها مع دول الجوار. لقد لمس الايرانيون لمس اليد فوائد تحسين علاقتهم مع بعض الدول العربية. فمع التحسن في العلاقات الايرانية - السعودية توفرت فرص افضل لتصحيح اسعار النفط ومداخيله. واذا تمكنت ايران من تطوير علاقتها مع سائر الدول العربية المجاورة يحقق الطرفان العربي والايراني المزيد من الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية. وحتى تبلغ طهران هذه الغاية فتصبح اكثر قدرة على تحقيق هذه الفوائد وعلى مقاومة الضغوط الاسرائيلية فانه من الضروري ان تبادر الى تفكيك عقد قائمة بينها وبين دول عربية مجاورة منها دولة الامارات العربية المتحدة. ان الاستجابة الى طلب الامارات الذي تبنته الدول العربية باحالة قضية الجزر الثلاث الى التحكيم لا يضير ايران لأنها تترك لجهة دولية محايدة البت، بصورة سلمية وقانونية، في نزاع يؤثر سلباً على العلاقات الايرانية - العربية. بالعكس، الاستجابة الى طلب التحكيم يفيد طهران اذا شاءت التأكيد على احترامها للقانون الدولي. واذا كان ما قاله آية الله ابراهيم اميني، وهو من رجال النخبة الايرانية الحاكمة البارزين، حول ثبات الحقوق التاريخية والقانونية لايران في الجزر الثلاث، فانه يصبح حرياً بطهران نفسها ان تُلح على طلب التحكيم الدولي بدلاً من اعتباره عملاً موجهاً ضد ايران. فهل تعيد طهران النظر في موقفها من هذا الطلب تمتيناً لعُرى الصداقة مع الجيران العرب واستعداداً لمواجهة ضغوط اسرائيل وعقوبات اصدقائها؟ * كاتب وباحث لبناني.