من يقرأ الاعترافات والذكريات التي أملاها الأديب الكبير نجيب محفوظ على الناقد رجاء النقاش، يفهم سر الزوبعة التي ثارت في مصر، العام الفائت، من حول الكتاب الذي ضم تلك الاعترافات والذكريات. ولا سيما في المجال السياسي. وتحديداً في ما يتعلق بموقف محفوظ من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ويلفت الأنظار في ذلك كله، خصوصاً، أن محفوظ حين يأتي على معاهدة الجلاء التي وقعت بين مصر وانكلترا، في المرحلة الأولى من حكم الضباط الأحرار، يقول انه لم يكن من الضروري على قيادة مصر في ذلك الحين أن تستفز الانكليز عبر مطالبتهم الفورية بالجلاء، هم الذين كانت المعاهدة تنص، على أية حال، على جلائهم بعد فترة قصيرة. بالنسبة الى محفوظ، كان على مصر أن تنتظر بعض الشيء فتحصل على ما تريد، وربما كان في امكانها أن تحصل على أكثر من ذلك. لكنها، بموقفها المتسرع، أخرجت الانكليز حقاً، لكنها جعلت منهم أعداء ما اضطرها الى الانحراف بسياستها. من الناحية الظاهرية، تبدو وجهة نظر صاحب "الثلاثية" سليمة وواقعية. لكن مشكلتها الوحيدة، هي أنها تبعد عن حقيقة ما حدث، بعض الشيء. وهذه ال"بعض الشيء" تعني الكثير في السياسة. ولأن نجيب محفوظ أديب وليس سياسياً، كان من الصعب عليه أن يدرك هذا الفارق. الفارق أدركه شخص آخر، رحل العام الماضي على عالمنا، وهو الوزير البريطاني السابق انطوني ناتنغ، الذي عاش حتى سنوات عمره الأخيرة، وهو يتذكر كيف أن مسؤولي بلده، كان كل ما يهمهم أن يخدعوا المصريين. ونذكر، في هذا السياق، أن ناتنغ - الذي وضع واحداً من أفضل الكتب الأجنبية عن جمال عبدالناصر -، استقال من الحكومة البريطانية، بالفعل، وطلّق سياساتها، حين وجد أنه لم يعد قادراً على تحمل سياساتها المخادعة، ومع هذا، كان ناتنغ نفسه هو الذي حاولت حكومته أن تمرر الخديعة عبره - وهذا ما زاد من سخطه كما ظل يكتب على الدوام - فناتنغ هو الذي كلف في خريف العام 1954، بالتفاوض مع الحكومة المصرية حول جلاء القوات الانكليزية عن مصر، وتحديداً عن منطقة القناة. وهذا التفاوض بدأ يوم الثالث عشر من تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام، لينتهي يوم التاسع عشر منه، بتوقيع الاتفاقية، حيث مثل ناتنغ في التوقيع بريطانيا، فيما مثل جمال عبدالناصر مصر نراهما في الصورة يوقعانها. وفي ذلك الحين كان عبدالناصر، الحاكم الفعلي لمصر، لكنه لم يكن رئيسها الرسمي. كان الرئيس الرسمي محمد نجيب الذي سوف يطيحه عبدالناصر بعد ذلك بشهر، وعلى أثر "محاولة الاغتيال" التي سيقال ان عبدالناصر تعرض اليها، ونجا منها. وكانت "مدبرة" من قبل الاخوان المسلمين، الذين سيقال ايضاً انهم "عملوا بالتواطؤ مع محمد نجيب" وبالطبع، سوف يشكك الكثيرون بصحة الحكاية من أساسها، لكن هذه مسألة أخرى. المسألة هنا هي المعاهدة التي وقعها عبدالناصر، مع انطوني ناتنغ، وفتحت أبواب صداقة واسعة بين الرجلين، خصوصاً وأن ناتنغ سرعان ما اكتشف، كما كان مواطنه لورانس، قبله بعشرات السنين، أن حكومته تستخدمه لمخادعة العرب. المهم في الأمر، اذن، ان ذلك اليوم الذي أتى تتويجاً لمفاوضات شاقة استغرقت نحو اسبوع، شهد توقيع معاهدة تنص على جلاء الانكليز عن منطقة القناة. والمهم أكثر ان عبدالناصر كان يعرف، حسبما سيقول المؤرخون لاحقاً، ان بنود المعاهدة لا تتفق في تفاصيلها وفي نقاط عديدة منها، مع ما كانت مصر تتطلع اليه. فكما يحدث في كل معاهدة وفي كل تفاوض، كان على الجانب المصري أن يقدم بعض التنازلات. وعبدالناصر قدم تنازلات سوف توصف لاحقاً بأنها "نقاط سوداء" في بنود المعاهدة. والأخطر من ذلك انه كان يعرف ان "خصوم الثورة" وعلى رأسهم "الاخوان المسلمون"، سوف يستغلون تلك الثغرات لكي يوجهوا الانتقاد، وربما ما هو أكثر من الانتقاد، الى الثورة وقياداتها. وبالفعل ما أن اذيعت بنود المعاهدة يومها، حتى طلع من يقول ان النحاس باشا "كان أكثر محافظة على حقوق مصر، في المعاهدة التي وقعها مع الانكليز في العام 1936". وكان ما حرك هذه الأقاويل، بند في المعاهدة يعطي الانكليز الحق في اعادة تأهيل وتشغيل قاعدة التل الكبير، في حالة ما إذا وقع عدوان أجنبي على واحدة من الدول العربية، أو على تركيا. وكان من الواضح ان هذا البند موجه ضد الاتحاد السوفياتي. غير أن عبدالناصر اضطر لقبوله، كما سيقول هو لاحقاً، لكي يكسب بعض الوقت الذي يمكنه من اجراء اصلاحات. مهما يكن في الأمر، فإن تصفية الاخوان المسلمين جرت بعد ذلك باسبوع. وظل السؤال: هل تراهم صُفّوا لأنهم فعلاً تحركوا ضد المعاهدة. أم أن الظرف دفع أهل السلطات الى التخلص منهم؟