نشرت مجلة "ميدل إيست إينسايت" قبل اسابيع عدة مقالة طويلة كتبتها حول موضوع سبق ان تطرقت اليه بايجاز مرات عدة على صفحات "الحياة": "خط الرابع من حزيران يونيو 1967" في ابعاده التاريخية والجغرافية. واتسمت ردود الفعل على المقالة حتى الآن بهدوء مثير للاستغراب. يبدو مدهشاً الاّ تثير سخطاً او شجباً هذه المحاولة لتحديد خط الرابع من حزيران يونيو 1967 على المستوى المفاهيمي أي خطوط القتال التي كانت تفصل القوات البرية السورية والاسرائيلية في بداية الحرب في حزيران يونيو 1967 وعلى مستوى الجغرافيا السياسية المحددة أي سيطرة سورية على اماكن كانت في وقت مضى تقع في فلسطين، مثل الحمّة والشاطىء الشمالي الشرقي لبحيرة طبرية والضفة الشرقية لنهر الاردن. وكانت هناك وفرة من التساؤلات والاقتراحات والنقد المفيد الذي اتسم بالاعتدال والابتعاد عن الطابع الشخصي. لكن، حتى هذه اللحظة، لم تتعرض دوافعي الى التشكيك او الهجوم. هل يُفترض ان يصيبني هذا بصدمة؟ لابد ان أسارع الى تأكيد ان هذه ليست شكوى. انه، في الواقع، شيء يبعث على الارتياح ان اتمكن من نشر مقالة حول مسألة عربية - اسرائيلية مثيرة للجدل الى حد بعيد ولا اتعرض لهجمات شخصية او تشكيك خبيث. واختفت على نحو ملفت التساؤلات التي تُثار عادةً عن الدافع وراء ما كتبته، ومن دفع لي، ومن الجهة التي اخدم حقاً مصالحها، ولماذا نُشرت المقالة الآن، وهلم جراً... وبالفعل، تجعلني تعابير الاطراء التي تلقيتها من عرب واسرائيليين على السواء احس بارتياب كبير. ماذا فاتني؟ هل يوجد خلل جدي في المقالة؟ بين التفسيرات المحتملة الكثيرة لغياب النقد القاسي، أرى ان ما يأتي هو الأكثر صدقية: 1- لم يجد اولئك الذين يرغبون في شجب المقالة وكاتبها وقتاً كافياً بعد او وسيلة مناسبة للاتصال بي. 2- لم يمض على نشر المقالة سوى بضعة اسابيع ولم يجر تداولها بعد على نطاق واسع خارج الولاياتالمتحدة. ومعظم اولئك الذين قرأوا المقالة هم بشكل اساسي من الاكاديميين ومعارف الكاتب الذين يقدرون جودة العمل وصدوره في الوقت المناسب، ولا يرون انه يستفزهم، واحسب انهم مهذبون في ردود افعالهم بسبب الصداقة. وقد يحفز تجدد المحادثات الاسرائيلية السورية تعليقات انتقادية اكثر من "الجمهور". 3- يمكن للسوريين والاسرائيليين الذين اطلعوا على المقالة ان يعتبروها غير مؤذية. فهي تقدم وصفاً للتطور التاريخي والجغرافي ل "الخط" بطريقة غير منحازة، اذ تعرض مواقف كلا الطرفين من دون التصديق على أي منهما. وهي تتجنب كلياً الجدل حول "وديعة رابين". كما تشير الى ان التفسير الديبلوماسي للتعبير "خط الرابع من حزيران يونيو 1967" امر يعود تعريفه الى الطرفين - لا الى الكاتب او أي شخص آخر. بمعنى آخر، لا مصلحة للكاتب في ان يحدد بالضبط الموقع المستقبلي للحدود الاسرائيلية السورية. ومن المحتمل - ليس مؤكداً، لكنه محتمل - ان يكون انصار كلا الطرفين اعتبروا المقالة مناسبة ودقيقة، أي انها غير مؤذية. التفسير الذي سأُفضّله، بالطبع، لغياب السخط يتضمن ردود فعل اكاديمية وشعبية على النمط الآتي: "المقالة جيدة بعض الشيء ومتوازنة وصادقة. لكن القضية ذاتها متعبة. هذه القضية هي إلهاء، ولا علاقة لها بالهموم الحقيقية لنا نحن الذين نعيش في سورية واسرائيل ويشغلنا كلياً السعي الى كسب الرزق وتربية اطفالنا والاستفادة الكاملة بشكل بناء من اقتصاد عالمي جديد جعل العام 1967 لا يختلف، من الناحية الفعلية، عن العام 967". او، كما طرح المسألة احد اصدقائي العرب، "هل تعرف ما هو مشترك بين 1967 و 1999؟ لا يوجد بريد الكتروني في دمشق". قد يوحي مثل هذا التفسير بأن السوريين والاسرائيليين على السواء يريدون ان يضعوا هذه القضية وراءهم، وانهم يريدون ان ينصرفوا للتعامل مع واقع الحياة الانسانية على الارض مع اقتراب نهاية الالفية. وربما يتعين على اولئك بيننا ممن لا يزال مفتوناً بمعاهدة سايكس بيكو، وبمواثيق الحدود المبرمة بين انكلترا وفرنسا، وباتفاقات الهدنة وبحدود الرابع من حزيران يونيو 1967، ان يدرك ان واقعنا لم يعد طبيعياً او بناءً. وبالفعل، سيكون هذا من دون معنى لولا الأذى الذي يسببه. يمثل حافظ الاسد وإيهود باراك في سورية واسرائيل زعيمين واثقين تماماً من قدرتهما على إدراك المشهد السياسي في بلديهما. فمن منظور الرئيس الاسد، لا يمكن للسلام مع اسرائيل ان يستقطب تأييداً شعبياً ويحسّن الحظوظ السياسية لنظامه الاّ اذا استند على التصفية الكاملة لنتائج حرب حزيران يونيو 1967 المتعلقة بالاراضي، أي الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. من جهة اخرى، يواجه رئىس الوزراء باراك الحاجة لاقناع جمهور اسرائيلي ميال الى الشكوكية بأن النتائج على صعيد الامن والمياه، المترتبة ضمنياً على "انسحاب كامل"، يمكن استيعابها وانها مأمونة في النهاية. ما قد يدركه كلا الزعيمين، اذا كانا يتصفان حقاً بالحكمة، هو ان الوقت عدوهما المشترك. فبالنسبة الى اسرائيل، بدأ الاندماج في الاقتصاد المعولم المستند الى المعلوماتية. ويمثل تورطها المستمر في قضايا املاك تتعلق بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين إلهاءً مكلفاً لا يعيق التقدم الاقتصادي فحسب بل يرجىء تسوية القضايا الاجتماعية الداخلية ايضاً. بالنسبة الى سورية، يتسارع تدني شعب موهوب وذو قدرات متميزة في مجال الاعمال الى مستوى يماثل حال سكان كوريا الشمالية مع مرور الوقت وتفويت الفرص وولادة كل سوري جديد. اذا استطاعت سورية واسرائيل ان تتوصلا الى ذلك النوع من الترتيبات الامنية التي ستسمح بجلاء اسرائيلي عن مرتفعات الجولان، لن يكون هناك أي شيء يتعلق بخط الرابع من حزيران يونيو 1967 - ولا حتى قضية المياه في زمن الجفاف الحالي - يمنعهما من استخدام صيغة ما لهذا الخط يجري الاتفاق عليها بشكل متبادل كأساس ل "حدود سلام" بينهما. واذا كان حتى هذا الاستنتاج النهائي للمقالة التي نحن بصددها اخفق في إثارة الادانة او الجدل، احسب ان السبب يكمن في ان السوريين والاسرائيليين على السواء يدركون على نحو متزايد ان العواقب الناجمة عن عدم تسوية هذه المسألة تفوق بكثير المخاطر المرتبطة بتسويتها نهائياً وعلى نحو حاسم. واذا نجا الكاتب من الادانة، فربما يعود ذلك الى ان اولئك بيننا الذين لا يزال اهتمامهم منصباً على حزيران يونيو 1967 واصداؤه التي تخفت أكثر فأكثر، لم يعودوا يستأثرون باهتمام جيل اصبحت الاحداث قبل 32 سنة تمثل بالنسبة اليه تاريخاً عتيقاً. * كاتب متخصص في الشؤون السياسية والعسكرية في الشرق الاوسط، شريك في "ارميتاج اسوشييتس"، ارلنغتون، ولاية فرجينيا الاميركية.