السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العالمي الثامن والعشرين للاستثمار في الرياض    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الضفة الغربية
نشر في الحياة يوم 20 - 12 - 1998

زرت فلسطين المرة السابقة خلال شهري شباط فبراير واذار مارس الماضيين، اثناء تصوير فيلم "بحثاً عن فلسطين" لتلفزيون "بي بي سي"، الذي عُرض في قناة "بي بي سي 2" في ايار مايو ثم في برنامج "بي بي سي وورلد" في حزيران يونيو الماضي قبل ان يختفي، للأسف، بشكل او بآخر. فرغم انه صُوّر هنا وهناك في الحرم الجامعي وفي منازل مواطنين وفي واحد او اثنين من الاماكن العامة في فلسطين واسرائيل، اخفقت "بي بي سي" كلياً في ايصاله الى شاشات التلفزيون في اميركا، حيث كان يمكن ان يفعل شيئاً لتصحيح الصورة المضللة، بل الغبية الى درجة تبعث على السخرية، التي يحملها معظم الاميركيين في اذهانهم عن الشعب الفلسطيني و "عملية السلام". ولم تحقق جهود التسويق التي بذلتها "بي بي سي"، حسب علمي، قدراً اكبر من النجاح مع مؤسسات التلفزيون الاوروبية والعربية. وتلمسنا بشكل خاص اثناء التصوير في اماكن مثل الخليل وبيت لحم والقدس تدني نوعية الحياة اليومية بالنسبة الى المواطن الفلسطيني العادي، الذي تقلصت بشكل حاد قدرته على كسب الرزق او السفر منذ اتفاق اوسلو، ويواجه بشكل مستمر خطر فقدان ارضه وداره، وتحولت حياته في ظل سلطة الرئيس عرفات البغيضة التي تحظى بدعم وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي" والموساد الى كابوس. امكن على الاقل ان نسجّل في صور ذلك الجزء الضئيل من الاراضي - حوالي 3 في المئة - الذي تسيطر عليه السلطة الفلسطينية، ونعني بذلك السيطرة التي تُستثنى منها المخارج والمداخل والموارد المائية والامن، اذ لا تزال اسرائيل تتحكم بكل ذلك. ويعرض اخر مشهد في الفيلم الاشياء بشكل صارخ: كانت الارض تُصادر يومياً من دون ان يتمكن احد، او اي مسؤول، من وقف البلدوزرات الاسرائيلية المفزعة والجنود الذين يقتحمون قرى عزلاء ويبدأون فوراً عملهم المدمر بكفاءة وقسوة متناهية.
هذه المرة - خلال الثمانية ايام التي قضيتها هناك في منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي - كان اتفاق "واي بلانتيشن" لا يزال طرياً في الذاكرة، لكنه لم يلقَ اهتماماً يذكر من كل الذين تحدثت اليهم. وتولد لدي انطباع بأن هناك، في مكان ما بعيداً عن مسرح الاحداث الرئىسي، فرقاً من الباحثين الاسرائيليين والفلسطينيين الذين يسعون الى فهم الاتفاق توجد حالياً شبكة مدهشة من المعاهد ومراكز الابحاث المنتشرة في انحاء الاراضي الفلسطينية، معظمها مموّل من جانب الاوروبيين، بشكل منفرد او في مجموعات، ويعمل الكثير منها بالتعاون مع نظراء اسرائيليين. ونظراً لاني لست خبيراً مهنياً او احد صناع السياسة او صحافياً او مرشحاً لوظيفة، فقد تحسست، بشكل غير مباشر، وجود هذه المؤسسة الكبيرة نوعاً ما التي توظّف لديها كثيرين من حملة الدكتوراه. لا شك ان جهداً كبيراً قد اُستثمر في اتفاق السلام هذا. وكانت التحضيرات جارية بالفعل لافتتاح مطار غزة - كاد شايام باتيا مراسل صحيفة "ذي غارديان" يقنعني بالذهاب الى غزة لمجرد القاء نظرة على الموقع، الذي انفق فيه حتى الان اكثر من 65 مليون دولار، ويبدو في تناقض صارخ مع الوضع المعيشي البائس لمئات الالاف من اللاجئين الفقراء في انحاء القطاع - وللاجتماع المقبل للمجلس الوطني الفلسطيني الذي القي الرئىس بيل كلينتون امامه خطاباً فيما يمزق هذا المجلس "الميثاق الوطني" او يعدّله للمرة الرابعة. التكرار موضوع ثابت اينما ذهبت. الاسئلة ذاتها تُسأل. الاشياء ذاتها تُقال هناك، على سبيل المثال، وعد عرفات باعلان دولة في 4 ايار مايو 1999، رغم ان دولة اُعلنت بالفعل في 1988. سيجري تغيير "الميثاق" مرة اخرى. ومع ذلك، لا يزال المستوطنون الاسرائيليون ينتشرون في كل مكان، وتُهدّد مزيد من القرى، وتُبنى المزيد من الطرق، ويُنتزع المزيد من الاراضي. يقول ابو مازن، الرجل الثاني بعد عرفات، ان ارييل شارون لم يعد الرجل نفسه الذي غزا لبنان وفرض حصاراً على بيروت لمدة شهرين، وقصف المدينة بشكل عشوائي في 1982، وكان مسؤولاً عن مذبحة صبرا وشاتيلا. ادهشني انه لم يدافع ايضاً عن الجنرال بينوشيه بالاستناد الى المنطلقات نفسها.
كان عزمي بشارة، الفلسطيني ذو الشخصية الجذابة وعضو الكنيست نظّم لي اجتماعاً عاماً في الناصرة حيث كنت سألتقي اسرائيليين من اصل فلسطيني للمرة الاولى في مثل هذا المنتدى. واصطحبني الصديق معين رباني، الذي يعمل في مشروع توأمة مع بلديات هولندية وفلسطينية، في سيارته من آخر مأدبة غداء في المؤتمر المنعش الذي نظمته جامعة بيز زيت عن البيئة في فلسطين، الى الناصرة مروراً بنابلس وجنين والعفولة، في رحلة استغرقت ثلاث ساعات. وعلى مشارف نابلس نقلنا معنا في السيارة شاباً كان يريد الذهاب الى الزبابدة، وهي قرية مسيحية تبعد حوالي 10 كليومترات من جنين في شمال الضفة الغربية. وتبيّن خلال الحديث ان الشاب موظف قيد التدريب في الكازينو الفلسطيني الجديد الذي اُفتتح لتوه في اريحا. سألناه، وفي بالنا اولاً ما يقاسيه من وعثاء السفر وطول الرحلة، "هل تسافر على هذا الطريق كل يوم؟". اجابنا: "كلا، سيستمر ذلك حتى انتهاء التدريب. لا اقضي هناك حالياً سوى بضع ساعات يومياً بينما يعمل الكازينو بدوام جزئي. حالما ينتهي تدريبنا ويبدأ الكازينو العمل على مدار الساعة سنقيم في سكن داخلي بجواره. يعيش المدير النمساوي في احدى المستوطنات الاسرائيلية القريبة، كما هي الحال بالنسبة الى جميع الموظفين الاجانب". وبما اني لست من مرتادي الكازينوات حاولت ان اعرف بالضبط ما يتدرب عليه. "بلاك جاك"، قالها باللغة الانكليزية، وهي لعبة اعرفها بخلاف البوكر او البكاراه او الكرابس، التي كان يتهيأ للتدرب عليها وكانت قواعدها تستعصي عليّ دائماً. وبدا ان اعترافي هذا اثار لديه احساساً بالرضا. وعندما دخلنا الزبابدة قلت شيئاً يلمح الى انها تبدو بلدة مزدهرة. قال الشاب "لدينا كل شيء هنا. حتى فياغرا". لم افهم هذه الكلمة الاخيرة، حتى اوضح ما كان يعنيه. "الفياغرا". انه حقاً تطور متفاوت.
في الناصرة، كان عزمي استأجر "قاعة فرانك سيناترا" لاستضافة تلك الامسية. نعم، فرانك سيناترا، احد انصار اسرائيل القدامى الذي تبرّع حسب ما يبدو بالمال لاقامة منشأة للرياضة يستخدمها اليهود والعرب الناصرة اكبر بلدة عربية في اسرائيل. وفي وقت لاحق، جرى تحويل المنشأة الى مركز اجتماعات للهستدروت. وعندما وصلنا الى المكان، اوضحوا لي انه يمكن دائماً تأجيره لاقامة اجتماعات. شعرت باطراء لمجيء مثل هذا الحشد الكبير من الجمهور بالنسبة الى ليل يوم أحد لرؤيتي والاستماع الي. كانوا جميعاً من المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل الذين يبلغ عددهم الكلي حوالي مليون شخص، اي حوالي 20 في المئة من سكان اسرائىل. ويمثل عزمي الجيل الجديد من فلسطينيي 1948 حسب ما يُطلق عليهم: يتقن على نحو مدهش اربع لغات العربية والعبرية والانكليزية والالمانية، ويعتمد اسلوب المواجهة المباشرة في التعامل مع الاسرائيليين الذي يستمده من الاعتياد والدراية وعدم الخوف. وهو قبل كل شيء رجل لامع يحظى باعجاب كبير من جانب الناخبين في منطقته الذين لا يرون فيه تابعاً خانعاً لأحد الاحزاب الاسرائيلية الكبيرة او لمنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات، بل مثقفاً ينادي بحق تقرير المصير عبر المواطنة والمساواة للجميع، يهوداً وعرباً. لذا فإنه يمثل تهديداً للوضع العربي القائم لا يقل عن الخطر الذي يمثله على اسرائيل. وتسعى وسائل الاعلام في كل مكان في اسرائيل والعالم العربي الى التودد اليه، وهو مستعد دائماً للتعبير بصراحة عن آرائه، مخلّفاً وراءه الكثير من النقاش والجدل.
في تلك الامسية في الناصرة، قدمني عزمي بحرارة الى الجمهور الذي اتسم بالود والفضول، ثم طلب مني ان اعرض تطور افكاري السياسية وصولاً الى نقدي لعرفات واتفاق اوسلو والنظام الاسرائيلي. وعند الانتهاء من ذلك، فُسح المجال لتوجيه الاسئلة، وعلى امتداد ساعة ونصف ساعة أجبتُ عن الاسئلة شتى، ومن ضمنها انتقادات كان وجّهها الى "الاستشراق" ماركسي سوري في الثمانينات. اشرت اثناء اللقاء الى ان المناسبة كانت اشبه بعودة الى الوطن بالنسبة الي، لان أمي ولدت ونشأت في الناصرة حيث كان والدها انشأ الكنيسة المعمدانية وكان راعي الأبرشية فيها. كما منحتني المناسبة الفرصة لأوضّح مدى افتقار تكويني السياسي الى الدراية بأوضاع الفلسطينيين في اسرائيل الذين كان يُنظر اليهم في العالم العربي كما لو كانوا خونة لانهم بقوا كمواطنين غير يهود في اسرائىل. قلت ان ما يستوقفني الآن هو الدور الحاسم الذي اصبح يلعبه الفلسطينيون في اسرائيل بالنسبة الى مستقبلنا كشعب لانهم جسّدوا بشكل مثير، نظراً الى كونهم مواطنين غير يهود في دولة عبرية، الاوضاع الشاذة لانظمة الحكم القومية والدينية في انحاء الشرق الاوسط. إذ اصبحت القومية الطريق المسدود لحياتنا السياسية، وتقتضي تقديم تضحيات لا تنتهي والغاء الديموقراطية من اجل الامن القومي. ينطبق هذا في اسرائيل وفي كل بلد عربي على السواء. وفي بلدان مثل لبنان حيث تجاهلت عملية اوسلو كلياً تجمعات كبيرة للاجئين الفلسطينيين، يمكن ان ألاحظ تماثلاً مع معاناة الفلسطينيين في اسرائىل باستثناء ان هؤلاء، بالطبع، ليسوا مشردين بل حُرموا فحسب من الحقوق السياسية. فيُسمح لهم بالتصويت، لكن لا يحق لهم شراء الارض او استئجارها او بيعها، بل يُحتجز 92 في المئة منها في رعاية "الشعب اليهودي". ولا يتمتعون مثل كل الفلسطينيين، بما فيهم انا، بحقوق الهجرة وليسوا مشمولين ب "قانون العودة". هكذا، برزت حملة للمطالبة بمواطنة كاملة وشكّلت الاساس لصراع سياسي جديد داخل اسرائيل وسط اليهود والفلسطينيين على السواء واقامت منبراً علمانياً يمكن ان نلف حوله العرب فضلاً عن اليهود. وأعدت الى الذاكرة انني ودانيال بارانبوم التقينا في القدس الغربية في اذار مارس الماضي مجموعة من اليهود الاسرائيليين الذين كانوا مهتمين ايضاً بالعلمانية والحقوق الدستورية والمواطنة ضمن السياق اليهودي تماماً لاسرائيل الحديثة. كانت العلمانية بالنسبة الى هذه المجموعة حاجة ملحة تنقذ الحياة السياسية من براثن المتطرفين الدينيين.
في اليوم التالي، بناءً على دعوة من شابة اسمها لينا جيوسي، تدير مجموعة ابحاث حول "المعرفة والعلمانية والمجتمع" في معهد فان لير في القدس الغربية، على مسافة بضعة امتار عن المنزل الذي ولدت فيه واصبح الآن مكتب "السفارة المسيحية العالمية" ذات النزعة الاصولية المريعة، تحدثت امام حوالي ثلاثين من الاسرائيليين الفلسطينيين واليهود. لم يكن لدي وضوح حول ما يُفترض ان اتحدث عنه، وكنت منهكاً، وزادت من حيرتي التيارات الفكرية والانفعالات الجائشة في انحاء البلاد. تمتمت ببضع كلمات حول سياسات الهوية والحاجة الى رؤى جديدة حول التضمين، وهلم جراً، وسرعان ما اثار ذلك سلسلة من المداخلات المثيرة للاهتمام فعلاً من الحاضرين، الذين كانوا جميعاً من الشباب، وكلهم اكاديميون ويتحدثون اللغة الانكليزية بطلاقة. كنت قلت شيئاً عن اهمية الفكر المتصل بالجغرافيا بالمقارنة مع ما يتعلق بالزمان بالنسبة الى اعمالي حول الثقافة والامبراطورية - كان مؤتمر جامعة بير زيت حول البيئة لا يزال طرياً في ذاكرتي - واثار هذا مجموعة مدهشة من الردود. وللمرة الاولى منذ حوالي ست سنوات من السجال الفكري مع العرب واليهود على السواء، حول السياسات المتعلقة بفلسطين واسرائيل، احسست بانتعاش مفاجىء لأننا تجاوزنا بشكل ما سيل الهجمات اللفظية والحواجز التي كانت دائماً قائمة، ودخلنا حيزاً جديداً نسبياً يثير اهتماماً مشتركاً لدى اليهود والفلسطينيين على السواء في اسرائىل. انضم عزمي بشارة الى هذه المجموعة في وقت لاحق. ورغم اني لا اتذكر تماماً بعض النقاط الرئيسية التي اُثيرت، إلا اني اذكر بوضوح ان احساساً انتابني بتقاسم افتراضات علمانية حول السياسة والتاريخ والمستقبل. لم يدافع احد في الواقع عن الصهيونية القائمة. وقرب انتهاء النقاش الذي استمر حوالي ساعتين، بدأت ادرك بسرعة اني اتحدث في مؤسسة اسرائيلية، رغم وجود فلسطينيين، واني كنت محقاً في التحدث بشكل صريح ومن دون تحفظ حول المسؤولية الاخلاقية التي تتحملها اسرائيل عن نكبة فلسطين.
خرجت من هذه الزيارة القصيرة بتصميم متجدد بأن من المهم بالنسبة الينا كمثقفين فلسطينيين، متمسكين بحقنا في تقرير مصيرنا كشعب، ومصممين على عدم التخلي عن الكفاح ضد الظلم الذي نعانيه من جراء السياسة الاسرائيلية - الصهيونية، ان ننقل رسالتنا الى داخل اسرائيل والجامعات الاسرائيلية والمؤسسات الاسرائيلية، وغيرها. واتذكر اني ذكرت ذلك لعدد من اصدقائي الفلسطينيين في اليوم التالي، وبعد ذلك بيوم اثناء وجودي في مصر لحضور امتحان شفهي لطالب في جامعة طنطا. كان شاباً لامعاً عمل معي في دراسة عن كونراد لمدة سنتين في نيويورك. وكانت المناسبة ذاتها جديرة بان تُذكر لحماسة الطلبة والاساتذة كما لحيوية النقاش. في اي حال، عندما أثرت ما تولّد لدي من انطباعات في القدس والناصرة مع اصدقائي المصريين الذين لا يرقى شك الى وطنيتهم، حُذّرتُ فوراً من "التطبيع"، اي اقامة علاقات مع الاسرائيليين، خصوصاً على المستوى المؤسساتي. ورغم ان مصر تعيش حال سلام رسمي مع اسرائيل منذ ما يقرب من عشرين عاماً، لم يقم اي مثقف او فنان او كاتب مصري ذي شأن بزيارة اسرائيل او الاشتراك في حوار مع مثقفين اسرائيليين، وهلم جراً. ولا توجّه الجامعات الفلسطينية، كأمر واقع، الدعوة الى اكاديميين او طلبة اسرائيليين للمشاركة في مؤتمرات او ندوات، حتى اولئك الاسرائيليين الذين يُعرفون بتعاطفهم مع القضية الفلسطينية. وابلغني احد اصدقائي انه اخذاً في الاعتبار الهجمات الكثيرة التي شنها الجيش الاسرائيلي على الجامعات، يشعر الفلسطينيون انه سيبدو كما لو ان الاساتذة الاسرائيليين الزائرين يأتون الى اماكن مثل جامعتي بير زيت والنجاح كامتداد للجيش الاسرائيلي. لذا فانه شيء مرفوض. ونظراً الى اني لم اعش شخصياً هذه التجارب المؤذية فقد احتفظت بآرائي لنفسي، بينما كنت اكثر صراحة بكثير في مصر.
قلت لبعض اصدقائي المصريين، وكلهم معروفون ككتاب ومثقفين، ان الفلسطينيين عانوا الكثير من العزلة المفروضة عليهم داخل اراضٍ تخضع كل مخارجها ومداخلها لسيطرة الجيش الاسرائيلي. وكان الرد الذي حصلت عليه انها مسألة التزام قومي الاّ يجري اجتياز نقاط تفتيش اسرائيلية والاّ تُختم جوازات السفر او تُقدّم طلبات للحصول على تأشيرات دخول اسرائيلية، والاّ تُعطى اي إشارة الى "التطبيع" مع اسرائيل طالما بقيت قوة محتلة. ازاء هذه الحجة كرّرت الرد الذي تلقيته من الفلسطينيين: لن يأتي مثل هؤلاء المثقفين العرب ل "يطبّعوا" مع اسرائيل، بل سيذهبون هناك للتعبير عن تضامنهم مع كفاحنا من اجل تقرير المصير، ولتقديم المساعدة في مؤسساتنا، ولالقاء محاضرات وما شابه على طلبتنا، وللظهور في مناسبات يكون هدفها رفع المعنويات والتعرف في الوقت نفسه عن كثب على مشاكلنا كفلسطينيين، بشكل ملموس وعميق. كما قلت ان موقفكم يستبعد كلياً بشكل او بآخر السكان الفلسطينيين في اسرائيل: ألا يملكون الحق في ان تصغوا اليهم وتلتقوا بهم؟ لا اعتقد اني ولّدت بمجادلتي الانطباع الذي كنت اطمح اليه، لكني احسست هنا وهناك ببصيص موقف جديد محتمل. اما بالنسبة الى موقفي، فقد اكدت بوضوح انه بسبب ضعفنا غير المتكافىء تجاه اسرائيل علينا ان نشرع بمبادرات جريئة كي ننقل رسالتنا بالتحديد الى اولئك الاسرائيليين الذين استفادوا من غيابنا وصمتنا.
انه موقف محفوف بالمخاطر، بالطبع، لاسباب شتى، مادية وسياسية. فكسر الحواجز سيف ذو حدين. لكني مقتنع بقوة ان هذا هو ما نحتاج، نحن فلسطينيي الشتات، للقيام به رغم صعوبة مواجهة القوميين الاسرائيليين المتشددين في ملاذاتهم الفكرية حيث لا تمثل قضية فلسطين بأكملها حالياً سوى مسألة فصل مثلما كان النزاع بين السود والبيض في جنوب افريقيا وأمن اسرائيل وترتيبات تكتيكية. لم يجر الشروع بعد بمعالجة الحيف الذي وقع علينا، بسبب ارتباطه بكل تاريخ ما بعد الحرب وسياسات ما بعد المحرقة. واذا لم نطرحه للنقاش، رافضين الاختباء وراء تناسي التاريخ المقبول من قبل عرفات والزمرة الصغيرة من المتواطئين معه، فإننا سنظل نقاسي آلامه. وينطبق هذا على الاسرائيليين كما ينطبق علينا. فنتائج 1948 لن تختفي بهدوء فحسب، ويرجع هذا جزئياً الى خصوصية نزاعنا مع الصهيونية، كما يرجع بشكل اساسي الى ان وضعنا تفاقم في الخمسين سنة منذ 1948، ولم يتغيّر الاّ شكلياً، وبقي في جوهره من دون معالجة، مفتقراً الى التحليل العميق، وغير معترف به اخلاقياً وسياسياً من جانب معظم الاسرائيليين ومؤيدي اسرائيل.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.