في السادس من الشهر الجاري شن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو هجوماً قاسياً في الكنيست على حزب العمل المعارض. وكان من بين ما قاله: "أكدتم للكنيست وللشعب ان ليس هناك من التزام تجاه سورية بالانسحاب من الجولان. هذه كانت كذبة، مجرد كذبة. ربما لم يكن هناك اتفاق على حجم الانسحاب، لكن الحقيقة هي انكم التزمتم الى سورية سراً بالانسحاب من الجولان". تدّعي سورية منذ 1996 انها حصلت من اسرائيل على تعهد بالانسحاب الى "خط الرابع من حزيران يونيو 1967"، أي ليس فقط الانسحاب الى الحدود الدولية التي رسمها الفرنسيون في 1922، بل الى مناطق أبعد من ذلك غرب الحدود احتلتها داخل "المنطقة المنزوعة السلاح" التي أقيمت في 1949. ويعني هذا بالنسبة لدمشق حقها في العودة الى قرية الحمة، التي احتلتها اسرائيل في 1967 وأسمتها هامات غادير. من جهتها تنفي تل أبيب انها قدمت هذا التعهد، ورفضت في الوقت نفسه موقف سورية القائل ان المفاوضات مع اسرائيل، في حال معاودتها، يجب ان تنطلق من النقطة التي وصلتها المفاوضات السابقة في 1996. وتعتبر ان مبدأ الاستمرارية هذا الذي تطالب به سورية يشكل "شرطاً مسبقاً" لا يمكن قبوله. دار الكثير من الكلام في اسرائيل وخارجها، قبل وقت طويل من الاتهام العلني من نتانياهو، حول ما التزمه اسحق رابين في سياق المسار الاسرائيلي - السوري. هل وافق على إعادة مرتفعات الجولان؟ هل وافق على الانسحاب الى "خط الرابع من حزيران يونيو"؟ وعلى اعطاء سورية منفذاً الى بحيرة طبريا؟ الافتراض المعقول، الى ان نسمع من ذلك العدد القليل من المسؤولين من الطرفين الذين يعرفون الحقيقة، هو ان رابين وافق على ان انسحاباً اسرائيلياً كاملاً من الجولان هو واحد من النتائج الرئيسية لمعاهدة سلام بين سورية واسرائيل. كما انه من الممكن ان يكون وافق على صيغة "خط الرابع من حزيران". لكن هذا لا يعني بالضرورة انه قدم إلتزاماً مطلقاً من طرف واحد من دون توقع مقابل من سورية. فقد كانت هناك، على سبيل المثال، مطالب تتعلق بالجانب الأمني قدمها رابين ولم تشعر سورية ان بإمكانها تلبيتها، حتى مقابل العودة الى الحمة والى قطعة من الأرض على ضفاف بحرية طبريا. باختصار، الافتراض المعقول هو ان رابين حدد لسورية ما يمكن ان تحصل عليه على الأرض في حال التوصل الى معاهدة سلام. أي أن جوهر القضية هو ان الطرفين اتفقا مبدئيا على الموضوع الرئيسي للمفاوضات. أو أنهما، على ما يبدو، اتفقا على تعريف مشترك للوضع النهائي على الأرض، لكن معتمداً على تسوية لكل القضايا الأخرى العالقة بينهما، بدل تضييع الوقت في القفز بين قضية وأخرى، أي تقديم هذا المقدار الاضافي من الأرض مقابل ذلك الضمان الأمني، ثم مقدار اضافي آخر من الأرض مقابل التعاون السياحي او التمثيل الديبلوماسي... الخ. يعني هذا ان اتهام رابين بتسليم الجولان يشابه اتهام بائع سيارات بتسليم سيارة بمجرد دخوله في مفاوضات على بيعها. ذلك ان تسليم السيارة لا يعتمد على مجرد دخول المفاوضات بل نتيجتها. من الصحيح ايضا ان هناك في اسرائيل من يتحدث عن اهمال وتسرع رابين في الموافقة على دخول المفاوضات على أساس صيغة "الرابع من حزيران"، وانه لم يدرك مضامين ذلك. تناولت في مقالتي المنشورة في "الحياة" في 11 شباط فبراير من السنة الماضية قضية "خط الرابع من حزيران"، ويكفي هنا القول ان الخط لا يمثل حدوداً بل كان خط المواجهة بين القوات الاسرائيلية والسورية في المنطقة التي اعتبرت "منزوعة السلاح" حسب اتفاق الهدنة العامة في 1949. تكونت هذه المنطقة من 65 كيلومترا مربعاً من الأراضي الفلسطينية، وهي من ضمن الأراضي التي خصصها قرار التقسيم في 1947 لپ"الدولة اليهودية". وادعت اسرائيل منذ 1949 السيادة على تلك الأراضي، وحاولت في الفترة ما بين 1949 وحزيران 1967 فرض سيطرتها العسكرية بالتدريج عليها. في المقابل لم يكن هناك إدعاء سوري بالسيادة على المنطقة المنزوعة السلاح، لكنها سيطرت عسكريا على جزء صغير منها حتى حرب حزيران 1967. من المنظور الاسرائيلي، المشكلة في الانسحاب الى "خط الرابع من حزيران" هي الخوف من ان الخط نفسه سيتحول الى حدود دولية مع سورية، أي التنازل لسورية عن عدد من الكيلومترات المربعة من الأراضي الاسرائيلية. لكن، حسب اقتراح طرحته في مقالة سابقة في "الحياة"، يمكن لاسرائيل، من الناحية النظرية، الانسحاب الى "خط الرابع من حزيران" من دون تنازل عن أراضٍ، وذلك عن طريق اصطناع منطقة جديدة منزوعة السلاح. بكلمة اخرى، ان انسحابا اسرائيليا الى "خط" ما لا يستتبع بالضرورة تقدماً سورياً الى ذلك الخط. ليس لهذه الاعتبارات من فائدة بالطبع ما لم يعد الطرفان الى التفاوض. وفي هذا السياق فإن اتهامات نتانياهو المريرة الى حزب العمل لا تعني بالضرورة رفضاً مطلقاً للتفاوض. بل ان نبرته ومضمونه مثل نبرة ومضمون خطابات ايهود باراك زعيم حزب العمل طبيعية في برلمان صاخب مثل الكنيست حيث لا تتحرج الأطراف من اطلاق الاهانات الشخصية. يمكننا ان نشير، اضافة الى ذلك، الى ان حكومة نتانياهو مهدت للتنازلات التي قدمتها الى الأردن السنة الماضية في ما يخص المياه بتصريحات من وزير البنية التحتية الاسرائيلية ارييل شارون يدين فيها حكومة العمل السابقة بوضع حكومة ليكود في موقف تفاوضي صعب تجاه الاردن. المثير للاهتمام ان نتانياهو اعترف بأن الادعاءات السورية بحصولها على التزام من نوع ما من اسرائيل ليست من دون اساس. وربما انه، مثل شارون، سيدين قياديي العمل، الأحياء منهم والأموات، بتقديم التنازلات، ثم يعود الى "المسار السوري". هذا على الأقل ما يمكن ان نأمل. * شريك في "أرميتاج أسوشييتس"، في أرلينغتون، ولاية فرجينيا الأميركية. خبير في الشؤون السياسية والعسكرية للشرق الأوسط.