غرام الانسان في تحويل الأشياء الى رموز يعود في بعض أسبابه الى حنين مبهم تجاه بدائيته. غير أن الرموز، وهي متقشفة رغم إكتنازها بمعانٍ كبرى، غالباً ما تسقط في الكتابة العربية في بحر من الثرثرة، وتطمر ما ترمز إليه دون أن تكتسب للأسف حياتها الخاصة بها. في "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي، وهي رواية نالت شهرة مدوية، ذلك المنحدر الذي ينزلق إليه بعض الكتّاب في معالجاتهم الروائية، بحيث تتحول الرواية لديهم الى بحر من الرموز التي لا ترمز الى شيء في الحقيقة. وفي خضم هذا الطوفان الفاتن، والمغوي، لا تغدو سوى نص طويل كفيل بتبديد السأم لدى قارئ مأخوذ بشهرة الكاتب والكتاب معاً. وما سقطت فيه مستغانمي سقط فيه عبدالرحمن منيف، على شهرته وجوائزه، وحيدر حيدر وآخرون. ذلك أن الهَوَس في تحميل الأشياء أكثر من طاقتها عبر ترميزها يُفقدها منطقيتها، بحيث تغدو غير عضوية في النص الروائي، كأنها سقطت من علٍ، على غفلة من الفن نفسه ومقتضياته. في "ذاكرة الجسد" التي تحمل على غلافيها الأول والأخير صورة كاتبة شابة تذكّرنا بغادة السمّان الأكثر نضجاً بالتأكيد، ثمة مونولوغ طويل عن عشق مبرح وقع فيه رسام فقد ذراعه في حرب الاستقلال الجزائرية... الرسام يحب ابنة قائده الرمز، الذي استشهد في حرب التحرير. وثمة لمقتضيات الرمز أو تعضيده مناضل فلسطيني ولا بأس ان يكون شاعراً يطل برأسه في الرواية، ويتشارك مع البطل في حب الفتاة، أو هذا ما يتخيله الرسام على الأقل. غير أن علاقة الحب المثلثة هذه تظل ذهنية وغير مسوّغة فنياً. ذلك ان مونولوغات الرسام وتأملاته اللغوية الفاتنة وطموحه الى تحويل الفلسطيني والفتاة الى رمزين تهدر حياة الاثنين وتجعلهما شبحين، دون ملامح. فالعشق والحديث عنه يُغرق "ذاكرة الجسد" في بحر من التأملات والاسترجاعات المرهفة أحياناً، والانتقادات القاسية لمآل الثورة الجزائرية بعد الاستقلال، وهي تأملات واسترجاعات وانتقادات كان يمكن أن تتشكّل فنياً في شكل آخر غير الرواية: كان يمكن أن تكون مجرد نصوص أو خطاطات أولية تحتاج الى كثير من القسوة لتخليصها من الثرثرة قبل أن تصبح ضرورية في نص روائي. غير أن استسلام الكاتبة الى إغواء اللغة جعل نصها طافحاً بالثرثرة، في طموح غير مفهوم لتحويل الفتاة الى رمز. الفتاة في الرواية - الخطاطة أو المشروع، تتزوج في النهاية جنرالاً فاسداً ومفسداً، دون مقدمات، رغم حبها للرسام أو الشاعر أو اثنيهما معاً، من دون أن نعاين ذلك كقراء في النص نفسه، باستثناء استيهامات الرسام نفسه ومونولوغاته. وبهذا تتحول الفتاة الى مشروع رمز لجزائر ما بعد الاستقلال التي حكمها الجنرالات وقد ابتعدوا عن تراث البلاد نفسه، النضالي والطهراني. وهنا من المفيد ان نذكر أن اسم والد الفتاة الذي استشهد في حرب التحرير هو "سي الطاهر". وهذا الأمر، أقصد جعل المرأة رمزاً للوطن، يبدو أنه آفة تطورت طويلاً تحت الاحتلال. فالأدب الفلسطيني في نماذجه الأكثر شهرة أصيب بهذه الآفة التي ضيّعت فعلياً المرأة والوطن معاً على مذبح الافتتان باللغة نفسها. ويحدث بعد التخص من هذه الآفة ان يغرق هذا الأدب لا غيره في تخليص المرأة من محمولاتها الرمزية الثقيلة، فتنتشر موجة عارمة من الكتابة الحسية التي تتحدث عن امرأة في بُعد واحد، وفي الحالتين تظل المرأة غائبة، فهي في الحالة الأولى تُقسر على أن تصبح رمزاً، وفي الثانية تتحول الى جسد يخط عليه الفنان فائض شهواته الحسية واللغوية، ما يعكس هوساً بالقارئ ومداعبة رغباته، من دون ان تحفل بالفن نفسه كمعمار قاسٍ ومتطلّب وبالغ الغطرسة.