يستعجل "الأستاذ الجامعي"، على حسب تعريف صحيفة "النهار" اللبنانية في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1998 ملحم شاوول، نشأةَ قواسم مشتركة بين "مثقفين لبنانيين"، يجمعهم تناولهم "الحلول المطروحة لتطوير النظام السياسي في لبنان". ويرسي الكاتب على هذا المشترك تكوّن "أنتلجنتسيا" يقرأ قسماتها في ردود بضعة عشر كاتباً - من المحامين والمدرّسين الجامعيين والصحافيين، وكلهم إما حزبيون أو ناشطون في هيئات "مدنية" - على أسئلة طرحتها الصحيفة عليهم، ووضعتها على مشاغل اللبنانيين على عتبة ولاية رئاسية جديدة. وليس استعجال الإنتساب إلى باب وصنف من أبواب الجماعات وأصنافها، بناءً على قرينة واهية هي التشارك في الرأي، من غير الإنتباه إلى دور اختيار الصحيفة وانتخابها من تختار وتنتخب للإجابة في تجانس الإجابات - ليس الإستعجال هذا ما يبعث على النظر والفحص. فالإنتساب إلى أنتلجنتسيا، وتسويغ ظهور هذه الجماعة الباهرة، والسحرية الأثر المفترض الوعي المطابق، والفكر النقدي، وبلورة الحركات الإجتماعية والسياسية...، ترفع من قدر المثقفين العرب ومن مرتبتهم بأعين أنفسهم وأعين مجتمعاتهم، على ما يرجون ويأملون، وتخرجهم من تشرذمهم وضعف حيلتهم، وتحملهم على وظيفة اجتماعية فاعلة تنتشلهم من حال العيلة التي تمض المثقفين العرب وتحبطهم. فهذا العائد وحده، إذا عاد به على من يكتبون في السياسة انتسابُهم إلى باب ثابت من أبواب اجتماعيات التغيير، علة مقنعة في استعجال بعض الكاتبين نسبة زملائهم وإخوانهم، وأنفسهم، إلى هذا الباب، وإدخالهم تحته وفيه. فليس هذا من شأن أحد، مهما كان التعسف والتحكم واضحين وجليين. أما ما هو من شأن كل أحد فهو إحصاء المسائل التي يرى الأنتلجنتسيون المفترضون أو المزعومون رأيهم فيها، ويُخلص من رأيهم، أو آرائهم المشتركة، فيها إلى تنصيبهم المنصب الذي يُنصَّبونه، ويصبون إليه. وعلى هذا يسع الكاتبين "تحليل الأمور"، واقتراح "الحلول"، والتشارك في "النظرة والانتظارات"، وتسعهم الدعوة الحارة إلى فصل السلطات، واستقلال القضاء، وقانون انتخابات "جديد"، وإلى المصالحة الوطنية، وتحصين الحريات، و"الشفافية" الإدارية والمالية، وتنزيه العلاقات السورية واللبنانية عن "جو الرعب" و"الممالقة" و"الاستقواء" و"شبه العنصرية"... يسعهم هذه كلها وتلك كلها من غير التعريج على بعض المسائل اللبنانية الأولية. فمسألة مثل تعاظم عجز المالية العامة، يرتب بدوره ديناً عظيماً على كاهل اللبنانيين، وفوائد باهظة على سندات الخزينة، وصرفاً للإستثمارات والتوظيف عن طَرق أبواب الإنتاج، وبطالة عريضة، وإعالة سياسية وريعية لجماعات كثيرة من الموالين والمتكسبين والأنصار، وتجميداً للموازين السياسية والإجتماعية على ولاءات ثابتة هي باب ارتزاق في الوقت نفسه - مثل هذه المسألة تكاد لا تحظى بأضعف الإنتباه. وإذا حظيت ببعض الإنتباه، في معرض إحصاء يستوفي كل أبواب "الدولة" في كتب تدريس العلوم القانونية، وقف الانتباه عندها ولم يتجاوزها إلى باب منفصل ومستقل هو باب العلاقات بين الدولة اللبنانية وبين السياسة السورية. فلكل مقام مقال. أما تبعة الإعالة السياسية والريعية لأصحاب الولاء - في المرافق التي تتولى التعويض على المحتلين وتجنيد الموظفين في أجهزة الأمن والداخلية والحرب وإدارات وزارات الخدمات العامة - فلا يُحمَّلها أحد، لا داخل لبنان ولا خارجه القريب. ولعل من دواعي السخرية ، وهي اعتادها الكاتبون العرب المرشحون إلى مناصب الأنتلجنتسيا، مجيء حكومة من صلب العلاقات اللبنانية والسورية "المميزة" و"الأخوية" تجعل في صدارة مهماتها معالجة تعاظم عجز المالية العامة وآثاره في الحياة الإقتصادية اللبنانية وأمراضها المزمنة. بل إن الباعث على تكليف السيد سليم الحص وبعض فريقه الوزاري، وعلى ترك السيد الحريري و"كواكبه"، قد يكون تنبه بعض أصحاب السياسات الإقليمية على المخاطر التي يرتبها الدين العام المتورم على أمن هذه السياسات وعلى استقرار وصايتها على لبنان. ومعنى هذا، إذا صح الإستدلال أو التكهن، أن بعض من يصرفون شؤون لبنان من خارج، ويحجب تسلطُهم على مقاديره عن أعينهم إلحاح مشكلاته وأزماته، هؤلاء، المصرِّفون أو المتصرفون، أقدر على تشخيص رؤوس الأمراض والأدواء من الطامعين في مناصب الأنتلجنتسيا المزعومة، والمجمعين على "التحليل" و"الحلول". فهم يسمون وزارة تامة، ويقلدونها سلطات عريضة يتسنى للوزارة معها أن تقلم مخالب أعيان المقاتلة وأقيالهم وكبرائهم - إذا علم المتصرفون والأوصياء ما يعملون - جواباً عن مسألة يغفل عنها المثقفون المشتركون في "الفسحة المشتركة"، والفرحون بشراكتهم. ويُغفل الكاتبون مسألة أخرى، سياسية، قريبة من المسألة الأولى: فالقانون الانتخابي الذي يتطارحون اقتراحه وصوغه، وقانون الأحزاب السياسية المتصل بالأول، يُدلى الدلو فيهما وكأن العلاقات "المميزة" بالسياسة السورية لم ينجم عنها أثقال سياسية، حزبية وطائفية، نوعية" أو لم ينجم عن هذه العلاقات موقع جديد للسياسة كلها، أحزاباً وعصبيات ودوراً وأثراً، بإزاء القوى الإجتماعية. فبعض أحزاب الولاء يتمتع بامتيازات السفراء والقناصل والرعايا الأجانب في الدولة العثمانية، غداة معاهدة سليمان القانوني وفرانسوا الأول في الثلث الأول من القرن السادس عشر. ولما تقدمت المسألة القومية، العروبية، المسائل الأخرى كلها، السياسية والإجتماعية والحقوقية والثقافية، وأنزلت منزلة الفيصل في التقريب والتبعيد، وفي الإباحة والمنع، أعفيت التيارات السياسية من "تمثيل" المصالح والآراء والأهواء المختلفة، ومن المنافسة على خطب ود الناس، من غير طريق إفسادهم ورشوتهم. فخسرت السياسة، تحزباً واقتراعاً، العامل الذي يضبطها على اعتبار الحياة الاجتماعية وعلى اعتبار منازعاتها ولُحْماتها وتفريقها. فاستقلت السياسة عن المنازعات والعلاقات الإجتماعية، شأنها أي شأن السياسة في بلدان المشرق العربي حيث الإستيلاء من الأحكام السلطانية السائرة والمقبولة. ويُقترح على سياسة هذا شأنها، وهذه حالها، تارة الإنتخاب النسبي، وتارة ثانية الدائرة الواحدة، وتارة ثالثة مزيجٌ معتدل من النسبية ومن الدائرة الفردية والإنتخاب المباشر، ويرجأ إلغاء "الطائفية السياسية" أو يستعجل أو يلغى، بحسب ميول أو دواعٍ تعصى التصنيف - لكنها لا تحول دون دخول أصحاب الميول والدواعي جنة الأنتلجنتسيا وصنفها العالي. أما حال من تدلى علىهم الإقتراحات فمسألة قليلة الشأن وضعيفة الجانب. وعلى رغم "نشاط" الكاتبين وأصحاب الدلو، أي إسهامهم ولو كتابةً في نشاط الهيئات المدنية والإجتماعية، أهملوا كلهم الكلام في عمل هذه الهيئات وفي مصيرها إلى الخيبة والإخفاق. فلا الحملة في سبيل الإنتخابات البلدية، ولا الدعوة إلى إقرار قانونٍ اختياري للزواج المدني، ولا تثبيت مرسوم التعليم الديني، ولا حركة التنديد بقانون إعمار الوسط التجاري من قبل، أو الإحتجاج على قانون تنظيم الإعلام، أو الحملات البيئية، أدت إلى تعبئة شطر قليل من الذين قد يتشاركون في الرأي في هذه المسائل وهذا قرينة أخرى على زعم السياسة اللبنانية العروبية الإستقلال بنفسها عن جماعات الرأي وتياراته" ويؤيد ضعفُ جماعات الرأي هذا الزعم ولا يكذبه. فلا يتعسف من يخلص من السكوت عن هذه المسائل الأولى، ومن الخوض في "ثقافة" المسائل التي يخاض فيها وحملها على الجد، إلى ارتضاء الكاتبين المسائل التي يتناولونها بكلامهم وكتابتهم ركناً لاجتماعهم وجمعهم. فإذا اطّرحت هذه المسائل العواملَ التي أسقطت اللبنانيين في مهاوي الدين الثقيل، والإعالة العامة، والسياسة المتحجرة على الولاء، والأثقال السياسية والإجتماعية النوعية، وانفكاك السياسة من ضوابطها الإجتماعية، لم يحل ذلك بين بعض المثقفين وبين حمى الرغبة في الإستواء أنتلجنتسيا "عربية"، على الأرجح والأغلب، في لبنان، "الوطن الثاني" دوماً. * كاتب لبناني.