أسهم المؤرخون والإخباريون والجغرافيون والرحالة العرب والمسلمون إسهاماً جليلاً في تعريف العالم بالآثار - وبالمواقع الأثرية المنتشرة في بلادهم وخارجها بين الصين والأندلس، وعلى الرغم من أن معظم مؤلفاتهم التي وصلت الينا قد ترجمت الى اللغات الأجنبية فإننا لا نجد لإسهامهم ذكراً في تاريخ علم الآثار. فمن المناسب بل من الواجب القومي والعلمي أن نعرض، ولو باختصار، لجولاتهم في ميدان الآثار ومواقفهم من الأطلال القديمة، وأن نُلمح الى الوثائق المهمة التي تركوها لنا عن مشاهداتهم العيانية لأوابد ومواقع مجهولة أو شبه مجهولة في حلهم وترحالهم في العالمين الإسلامي والمسيحي وما حولهما. وعلى الرغم من أن دوافعهم في بعض تنقلهم كانت، في أحيان كثيرة، اقتصادية أو دينية أو سياسية، فإن العدد الأوفى من رحلاتهم كان سعياً وراء المعرفة، وقد جُهِّزت أحياناً بعثات استطلاعية لمهامٍ محددة لا تخلو من طابع أثري. ومن ذلك بعثة أُنفذت أيام الخليفة العباسي الواثق بالله 227 - 232ه/842 - 847م لاستكشاف سواحل بحر الخزر البحر الأسود وسد "يأجوج ومأجوج" سد الصين ومدينة الرقيم ؟. فقد ذكر الرحالة الجغرافي ابن خرداذبة في مؤلفه "المسالك والممالك" أن الواثق أرسل البعثة المذكورة "لتعاين السور وتنقل اليه أخباره وأوصافه"1 وقصدت بعثة استكشافية في عهد المقتدر بالله 295 - 320ه/ 908 - 932م بلاد الترك والخزر والروس الصقالبة2. وكان لدى بعض الملوك العرب المسلمين نوع من المتاحف يحفظون فيها الآثار التاريخية. فقد احتفظ العباسيون بتحفٍ من مخلّفات أسلافهم الأمويين. وذكر المقريزي أن الفاطميين أنشأوا بيوتاً للتحف الأثرية سمّوها "خزائن"، كخزينة الجوهر، وخزانة الأسلحة، وخزانة الفرش3. وثمة شواهد متفرقة، من عصور الأيوبيين والمماليك والعثمانيين في دمشق، على تدخل السلطة أو الأهلين أحياناً لإزالة الاعتداء على الآثار أو تغيير المعالم الأثرية. ولبعض المؤلفات التاريخية العربية قيمة أثرية واضحة مثل كتاب "الأصنام" لابن هشام الكلبي، المتوفى في 204ه/819م، فهو يتحدث عن أصنام وأنصاب ومشيّدات زالت، ويصفها وصفاً دقيقاً، من حيث مادتها وشكلها ومكانتها. ويعتبر كتاب "الإكليل" للحسن الهمْداني لجرف الدال نسبة لقبيلة هَمْدان في اليمن المتوفى في 334ه/ 945م ؟ مصدراً أثرياً مهماً، إذ أن صاحبه اليَمني يصف في بلاده القلاع والقصور القديمة، فضلاً عن أنه كان يقرأ النصوص الأثرية المنقوشة على المباني القديمة والمحررة بخط المسند العربي الجنوبي. وينقل لنا الطبيب الرحالة عبداللطيف البغدادي 557 - 629ه/ 1161 - 1231م في كتابه "الإفادة والاعتبار" شيئاً من موقف السلطات في الدولة العربية من الآثار، سواء منها الخاصة بهم أو التي سبقت عهودهم قائلاً: "وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار وتمنع العبث بها وإن كانوا أعداء لأربابها وكانوا يفعلون ذلك لمصالح منها لتبقى تاريخاً بتنبه بها على الأحقاب. ومنها أنها تكون شاهدة للكتب المنزَّلة فإن القرآن العظيم ذكرها وذكر أهلها. ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتعداد علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك، وهذا كله مما تشتاق النفس الى معرفته وتؤثر الإطلاع عليه...4"، ونرى في هذه العبارات تحديداً صحيحاً لأكثر مهمات علم الآثار في العصر الحديث، ويحمل البغدادي على لصوص الآثار قائلاً عنهم "إنهم يحسبون كل عَلَم أي علامة يلوح لهم أنه عَلَم على مطلب، وكل شق مفطور في جبل أنه يفضي الى كنز، وكل صنم عظيم أنه حافظ لمالٍ تحت قدميه وهو مملكٌ عليه، فصاروا يعملون الحيلة في تخريبه ويبالغون في تهديمه..."5. ومن أشهر المواقف العربية إزاء الآثار موقف الشاعر أبي يَعْلي المعرِّي وهو غير أبي العلاء مرَّ بخربة "سياث" وهي من القرى البائدة في محافظة إدلب فرأى شخصاً يحطم الأوابد الأثرية فقال أبياته الشهيرة التي يجب أن تكون شعاراً للآثاريين: مررت برسمٍ في سياثَ فراعني به زجلُ الأحجارِ تحتَ المعاولِ تناولها بحبلُ الذراعِ كأنما رمى الدهرُ فيما بينهم حربَ وائلِ فقلتُ له شُلّت يمينُك خلّها لمعتبرٍ أو زائرٍ أو مُسائِلِ منازلُ قومٍ حدثتنا حديثَهم ولم أرَ أحلى من حديثِ المنازلِ ومن الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب والمسلمين الذين عُنوا بوصف الآثار ابن خرداذبة المتوفى في 272ه/ 885م أو بُعيد ذلك فقد وصف في كتابه "المسالك والممالك" مدينة روما وأسوارها وأبوابها وكنائسها وتماثيلها ومرفأها في أوستيا لكنه كان ساذجاً في وصفه وشط به الخيال الى ما لا يُعقل. وكان ذلك انطلاقاً من حقائق بُولغ فيها أو زُخرفت لتثير الدهشة والعجب. ويورد اليعقوبي المتوفى عام 284ه/ 897م6 في مؤلفه المسمى "كتاب البلدان" وصفاً مهماً مفصلاً لمدينة بغداد ومدينة سامراء يعتبر مصدراً أساسياً للراغب في معرفة بغداد الحقيقية في القرن الثالث الهجري، أو شكل سامراء مدينة المعتصم التي ما تزال بقاياها قائمة للآن. يقول اليعقوبي: "لما ولي أبو جعفر المنصور... صار الى موقع بغداد ووجّه الى احضار المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الأرض حتى اختط مدينته... وأحضر البنائين والفعلة والصناع من النجارين والحدادين والحفارين وجعلها أي المدينة مدوّرة. وحفرت الآبار للماء وعملت القناة التي تأخذ من نهر كرخايا.... فأُتقنت القناة وأجريت الى داخل المدينة للشرب ولضرب اللِبْن وبلِّ الطين. وجعل للمدينة أربعة أبواب... وعلى كل باب منها باباً حديد كذا عظيمان ولا يغلق الواحد ولا يفتحه إلا جماعة رجال. يَدخل من الباب الفارس بالعَلَم والرامح بالرمح الطويل من غير أن يُميِّل العلم ولا يثني الرمح وجعل سورها باللِبَن العظام التي لم ير مثلها قط... وجعل أساس السور تسعين ذراعاً... حتى يصير في أعلاه على خمس وعشرين ذراعاً كذا وارتفاعه ستون ذراعاً مع الشُرّافات وحول السور فصيل جيلي. بين حائط السور وحائط الفصيل مائة ذراع... وعلى كل باب من أبواب المدينة التي على السور الأعظم قبة معقودة عظيمة مذهّبة... وفي وسط الرَحْبةُ العظمى القصر الذي سُمي بابُه الذهب. والى جنب القصر المسجد الجامع. وليس حول القصر بناء ولا دار ولا مسكن لأحد إلا دار من ناحية باب الشام للحرس وسقيفة كبيرة رواق ممتدة على عُمُدٍ مبنية بالآجر والجص..."7 ويتابع اليعقوبي تفصيل المدينة بحيث يمكن لأي مهتم إنشاء مصور يمثل بدقة تفاصيل مخطط المدينة. وكان ابن رشتة المتوفى بعد 290ه/ 903م في كتابه المسمى "الأعلاق النفيسة" دقيق الوصف للكعبة المشرفة ولبئر زمزم وللحرم. كما حدثنا عن كنيسة "أياصوفيا" في القسطنطينية والساعة التي فيها، وأتحفنا بذكر عجائب العالم ومنها أهرامات مصر. وتبعه ابن الفقيه المتوفى في أواخر القرن الثاني الهجري في وصف مكة المكرّمة وأبراج همذان وعجائب العالم. وفي العام 309ه/921م قام أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بالرحلة التي نوهنا بها سابقاً الى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة. وهي تخرج عن مقاصد بحثنا، إذ أن الوصف فيها "أتنوغرافي" قبل كل شيء آخر. يورد طرائف عن حياة شعوب سهوب روسيا والعادات الموروثة لديهم من الأزمنة القديمة8 تلك العادات التي نعرفها في بعض الحضارات البائدة ومنها عادة دفن الأحياء من أزواج وأتباع مع عظماء الموتى التي نعثر على أمثالها في مدينة "أور" السومرية وغيرها. إن أول آثاري عربي حقيقي هو المسعودي المتوفى في مصر عام 346ه/957م9. زار المسعودي فارس والهند وسيلان ومدغشقر وماليزيا ومشارف الصين وبحر قزوين. وتنقل بين مصر والشام طوال عشر سنوات. ويبدو المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" وصّافاً دقيقاً يذكر كل شيء بعناية. وكان يتوهم أحياناً. لكن ذلك لا ينقص من قيمة مجمل عمله. وقد وصف الآثار الساسانية وبيوت النار والنقوش الصخرية، كما وصف آثار إنطاكية وهياكل بعلبك والجامع الأموي بدمشق ومدافن الفراعنة وأهراماتهم بالتفصيل. وبصدد الفسيفساء يقول: "ان أنوشروان نقل من الشام المرمر والرخام وأنواع الفسيفساء. والفسيفساء هي شيء يطبع من الزجاج والأحجار ذو بهجة وألوان يدخل فيها فرش الأرض والبنيان... وحمل ذلك الى العراق فبنى مدينة نحو المدائن وسماها بروميه وجعل بنيانها ومداخلها أو داخل سورها بما ذكرنا من الأحجار يحكي انطاكية وغيرها من المدن في الشام... سورها من طين قائم الى هذا الوقت ولكنه خراب"10. ويصف مكاناً في الإسكندرية يسمى قبر الإسكندر رآه بأم عينه. ويصف عمارة انطاكية فيقول "ملك الشام ايطنحنس، هو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكانت دار ملكه وجعل بناء سورها أحد عجائب العالم في البناء على السهل والجبل. ومسافة السور اثني كذا عشر ميلاً عدد الأبراج فيه مئة وست وثلاثين وجعل شرفاته أربع وعشرين ألف شرفة... وجعل كل برج منها طبقات الى أعلى، فمرابط الخيل في أسفله والرجال في طبقاته والطريق في أعلاه، وجعل كل برج منها كالحصن عليه أبواب حديد، وآثار الأبواب ومواضع الحديد الى هذا الوقت"11. ويعرض المسعودي لبعض الآثار الإسلامية في سورية ومنها الرقة الرافقة قائلاً "بنى الرشيد نحو الرافقة على طريق بالس مسكنه حُصناً سماه هرقلة على الفرات يحاكي به حصن هرقلة ببلاد الروم وهذا الحصن باقٍ الى هذه الغاية هنالك خراب يعرف بهرقلة"12. ويحدثنا المسعودي كذلك عن اجراء تنقيبات في عهد الأخشيد محمد بن طغج قام بها جماعات "من أهل الدفائن والمطالب" ويعنى بهم الحفارين السريين قائلاً: "حفروا حفراً عظيماً في عهدة الأخشيد الى أن انتهوا الى أزج وأعقباء وحجارة مجوّفة في الصخر منقور فيه تماثيل قائمة على أرجلها من أنواع الخشب وقد طُليت بالأطلية المانعة في سرعة البلى. والصور مختلفة، منها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال أعينهم من أنواع الجوهر كالياقوت والزمرد والفيروز والزبرجد. ومنها ما وجوهها ذهب وفضة، فكسروا بعض هذه التماثيل فوجدوا في أجوافها رمماً بالية وأجساماً فانية، والى جانب كل تمثال نوع من الآنية كاليراني وغيرها من الآلات من المرمر والرخام. وفيه نوع من الطلاء الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في تمثال الخشب وما بقي من الطلاء متروك في الإناء... وبإزاء كل تمثال من هذه التماثيل تمثال من الحجر أو المرمر أو الرخام الأخضر، وعليها نوع من الكتابات لم يقف عليها أحد من أهل الملل وزُعم أن ذلك القلم قد فقد من الأرض منذ أربعة آلاف عام كذا"13. ومن الواضح أن هذا النص يصف بدقة مدهشة مدفناً فرعونياً فيه مومياءات لأشخاص كبار وصغار ضمن توابيت خشبية ذات شكل إنساني كما يذكر الأثاث الجنازي الوفير والثمين الذي يضم أواني وتماثيل وتحف منّزله بالحجارة الكريمة. 1 ابن خرداذبة هو أبو القاسم عبيد الله له كتاب "المسالك والممالك" الذي نشره المستشرق دوخويه عام 1889. 2 تعرف هذه البعثة بإسم رحلة ابن فضلان انظر الحاشية رقم 10. 3 المقريزي هو أحمد بن علي، بعلبكي الأصل، عاش في مصر وتولى مناصب مهمة فيها وألف كتاباً عن أحوال مصر الاجتماعية والرسمية بإسم "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" يعرف بإسم "الخطط المقريزية" وقد فصّل في موضوع الخزائن في الصفحات 408 - 420 من الجزء الأول، طبعة صادر، بيروت. 4 زكي علي حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، طبع دار المعارف في مصر، 1945 ص 111. 5 البغدادي، الإفادة والاعتبار، طبعة دار قتيبة 1983 ص 61. 6 اليعقوبي هو أبو العباس أحمد يعقوب بن جعفر بن وهب من مواليد بغداد. 7 اليعقوبي كتاب البلدان، طبعة دار التراث العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1988 ص 10 - 13. 8 نظراً لأهمية رسالة ابن فضلان ترجمت عدة مرات، وعلّق عليها المستشرق الروسي كراتشكوفسكي الذي يعتبرها أفضل ما كتب في هذا الموضوع في كل لغات العالم. حقق هذه الرسالة سامي الدهان ونشرها المجمع العلمي العربي بدمشق 1959 والطبعة الثانية 1987. 9 هو أبو الحسن بن الحسين، حجازي الأصل بغدادي المولد، ترك خمسة عشر مؤلفاً، وسماه ابن خلدون "إمام المؤرخين". وهو الجغرافي الأشهر ونعتبره الآثاري المحقق. 10 المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى، المجلد الأول ص 248 - 249. 11 المرجع السابق المجلد الأول ص 281 - 282. 12 المرجع السابق المجلد الأول ص 310، وهرقلة ما تزال قائمة قرب الرقة وكانت في الثمانينات تنقْب من قبل الزملاء في الرقة. 13 المرجع السابق، المجلد الأول، ص 407. * أستاذ محاضر في الدراسات العليا، كلية الآداب - جامعة دمشق.