يقام في بيت الفنانين المخصص للمعارض والاجتماعات في فيينا معرض عن اليمن تحت عنوان "الفن والحفريات في بلاد ملكة سبأ" تعرض فيه 600 قطعة أثرية. والمعرض افتتح في اليوم التاسع من شهر تشرين الثاني نوفمبر 1998 وسوف يستمر لغاية الواحد والعشرين من شهر شباط فبراير من هذا العام. وكان تحت رعاية رئيس الجمهورية الاتحادية النمسوية الدكتور كلستيل الذي كتب كلمة في دليل المعرض الفخم، وكذلك تحت رعاية الرئيس اليمني علي عبدالله صالح. والمعرض يغطي حقبة طويلة من تاريخ جنوب الجزيرة العربية تبدأ بفترة ما قبل التأريخ مروراً بالعصر البرونزي وتنتهي عند دخول الإسلام حيث كان خلالها جنوب الجزيرة العربية ومنذ القدم مأهول السكان، وقد دلت الحفريات الآثارية على وجود ثقافة فيه منذ العصر الحجري وأن آثار اليمن ترجع الى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. العدد المهم من المعروضات جيء به من اليمن، خصوصاً من المتحف الوطني بصنعاء، كما أعار المتحف البريطاني ومتحف الشرق الأدني البرليني والمتحف الوطني لتأريخ الشعوب في ميونخ وكذلك المؤسسة الأميركية لدراسات الإنسان مقتنياتها، هذا بالإضافة الى ما تملكه المتاحف النمساوية من آثار قيّمة من اليمن. من ضمن المعروضات عدد من القطع ذات الشهرة العالمية وكذلك ما هو جديد بعد الاكتشافات الأخيرة تعرض لأول مرة خارج اليمن وبعضها لم يعرض من قبل حتى في اليمن نفسها. والمعروضات تلقي الضوء على التطور الحضاري في جنوب الجزيرة العربية، وفي الوقت نفسه تؤكد بأن للعرب هناك منذ العصور الغابرة معرفة جيدة، ليس فقط في مجال الزراعة وبناء القصور والمعابد والسدود، وإنما أيضاً في مجال الفنون وأساليبها بما في ذلك التناسب بين العناصر ووحداتها. ان الاهتمام بالمعرض كبير وذلك لارتباط اسم اليمن بمخيلة الكثيرين، ليس فقط بسبب ما جاء في العهد القديم عن علاقة ملكة سبأ بالنبي سليمان، وإنما أيضاً لأنها أعطيت الإسم الذي تستحقه: بلاد العرب السعيدة Arabia Felix، حيث كتب عن جنوب الجزيرة العربية عدد من المؤرخين الأوروبيين ومنذ العقود الثلاث الأولى قبل الميلاد، ابتداء من مؤلفات المؤرخ سترابو الذي كان بمعية الحملة الرومانية على جنوب الجزيرة العربية في العام 24/25 قبل الميلاد. منذ زمن بعيد يعتبر اليمن بلد الأسرار، ومن اليمن انتقل عرش بلقيس الى الملك سليمان، كما جاء في العهد القديم. وقد ذكرت في القرآن الكريم الممالك المزدهرة في جنوب الجزيرة العربية في عدة مواضع كما في سورة سبأ وسيل العرم، وقصة أصحاب الأخدود سورة البروج، آية 4 - 10. فجنوب الجزيرة العربية خصوصاً، كان منذ زمن بعيد مقصد كثير من السياح والباحثين الذين جلبوا عدداً غير قليل من المقتنيات التي يعرض بعض منها المعرض الفيناوي. إن تأريخ البحث العلمي في تأريخ العرب القديم يدين بالكثير للمستشرقين الذين قدموا أبحاثاً جادة في مختلف الميادين وكذلك ما عثروا عليه من آثار ثمينة، من ضمنها نقوش عربية قديمة حضرمية، سبئية، ديدانية، ولحيانية وتمودية والتي يفتخر المعرض في عرض بعضها الآن. لقد نجح العلماء منذ زمن في فك رموز الكتابة العربية الجنوبية وأطلقوا عليها اسم "الحروف الحميرية" والتي تضم بعضها رموز معينية وسبئية، وهذه الكتابة سميت بخط "المسند" أو بالقلم "المسند" وفي الخط المسند تبدأ الكتابات السبئية. ان اكتشاف بعض النصوص في اليمن كان ولا يزال ذا أهمية تأريخية كبيرة، لأن هذه النصوص تلقي الضوء على تأريخ بعض الملوك الذين حكموا جنوب الجزيرة العربية من دون تحديد للفترة الزمنية لحكمهم. ولكن التأريخ الحميري الذي كتبت به بعض النصوص يدلّ من دون شك الى أن بداية التأريخ المدون بدأ في العام 115 قبل الميلاد. ان تلك الكتابات، وفي المعرض عدد منها، ليست فقط محفورة على الحجر وإنما كانت أيضاً مدونة على جدران المعابد وعلى المباخر المصنوعة من المرمر وعلى الأدوات الأخرى ذات الاستعمال اليومي، ومن تلك المعروضات، على سبيل المثال لا الحصر، مقتنيات المتحف البريطاني ومنها مجموعة من النقوش عثر عليها في مدينة عمران واشتراها الضابط البريطاني "كوجلان"، وهي جزء من معبد "المقه" الذي يطلق عليه العرب اسم "محرم بلقيس". أثرت كتابات "كارستن نيبور" عن رحلته الى الجزيرة العربية رغبات عدد من الباحثين للقدوم الى اليمن للتعرف الى ما أشار اليه عن النقوش والرقم العربية والتي يمكن أن يُرى عدد منها في المعرض، وقد عثر عليها فيما بعد العالم جاسبار سيتزن. كما أثارت الاهتمام كتابات العالم غلاسر الذي زار سد مأرب ورسم تخطيطات لآثار القنوات والسدود القديمة. إن الحضارة التي تطورت في جنوب الجزيرة كانت مرتبطة بالمعتقد الديني، فالمعرض يقدم عدة نماذج لمعابد، منها نموذج لمعبد معين وكذلك بعض من أجزائها ومن ضمنها أهم نصب ل"معبد يكرب" من النحاس، دقيق في تفاصيله وتنسيق أجزائه، هذا بالإضافة الى عدد من مشاهد القبور التي تمتاز بتلوينها بالأبيض والأحمر على شكل مربعات وتعطي الإحساس بخصائص الفن الحديث وتمثل بحد ذاتها شاهداً على التطور النوعي لحضارة جنوب الجزيرة العربية في مجالات عدة ومنها مجال فن النحت والزخرفة. في مقدمة المعروضات ذات الشهرة العالمية تمثال من المرمر الأبيض سماه علماء الآثار بإسم "مريم" أو "السيدة العذراء" يشعر المشاهد بجماله كأنه عمل من إنتاج أحد مبدعي الفن الحديث. كما وأن هناك بعض المنحوتات التي كانت أجزاء من البيوت ومنها تمثالان لراكبين على ظهر أسدين. في القاعة الأولى من العصر البرونزي هناك معروضات تمثل بعض السهام، وهناك أربع منحوتات من الحجر الكلسي لمقاتلين على شكل نحت ناتىء يمتاز بتصوير الملابس التي يرتديها الأشخاص والتي ما زال طرازها يستخدم في اليمن. وعلى رغم عدم وجود الأنهار الجارية ووعورة الأرض اليمنية نفسها فقد استطاع الإنسان اليمني بعبقرية فذة ان يوسع الأرض المزروعة ويطور أنظمة الري بأساليب ما تزال تذهل العلماء الى يومنا هذا. ولما كان الرخاء الاقتصادي في اليمن يعتمد على الحياة الزراعية وليس الرعي، لجأ اليمنيون الى انشاء السدود والخزانات والصهاريج التي تخترق جبالهم وذلك لحبس كل قطرة من مياه السيول وخزنها داخل السدود ثم اخلائها في جداول ري وقنوات لاستزراع الأراضي حسب الحاجة. لقد شهد القرن التاسع قبل الميلاد تطوراً حضارياً عاشه عرب جنوب الجزيرة حيث عرفوا نظام الري، وتعتبر آثار سد مأرب ولحد الآن من المعالم المهمة التي يقصدها الباحث والسائح على حد سواء، وفي المعرض نموذج كبير يحتل وسط احدى القاعات لسد مأرب يبيّن تفصيلاته. والسد عبارة عن حائط ضخم مبني بعرض الوادي على زاوية منفرجة ويمتد من الجنوب الى الشمال مسافة 650 متراً وفيه ثلاثة مخارج للمياه. سد مأرب أكبر عمل هندسي شهدته بلاد العرب في تأريخها القديم وقد تم انشاؤه في القرن السابع قبل الميلاد وكان الغرض منه زيادة مساحة الأراضي الزراعية وخصوصاً حول مأرب، مما كان السبب في الإعلاء من شأنها وزيادة عدد سكانها ورخائهم. وكان المؤسسون الحقيقيون لسد مأرب "تبع أمر" وأبوه "سمه علي بنوف"، وقد اكتمل بناء السد في زمن "شهر يرعش" عند نهاية القرن الثالث للميلاد وبقي قائماً لمدة 1300 سنة تعرض خلالها أكثر من مرة للتصدع. ومأرب تقع على مبعدة مائة كيلو متر الى شمال شرق صنعاء الحالية وعلى ارتفاع 3900 متر على مستوى سطح البحر، وقد بنيت المدينة على شكل مستطيل ولها أربعة أبواب في كل جهة منها وقد بني سور المدينة من حجر البلق. أما المملكة السبئية التي ارتبطت حضارة جنوب الجزيرة بها قبل غيرها حيث ذكرت في الكتب المقدسة وكذلك في حوليات الحضارات القديمة إذ وردت كلمة سبأ Sabu في نص سومري يعود الى الألف الثالث قبل الميلاد، وقد بدأت هجرة القبائل العربية الى جنوب الجزيرة، الى معين وحضرموت في حدود 1500 قبل الميلاد. وقد جاء في المصادر الآشورية، كما في التوراة، ان المجتمع هناك كان مجتمعاً منظماً سياسياً واقتصادياً وله حكومة قوية منذ القرن العاشر قبل الميلاد وذلك كما جاء في النص القرآني الكريم في سورة سبأ، لأن النبي سليمان حكم في الفترة 960 - 922ق.م. وفي طليعة المعروضات ذات الشهرة العالمية تمثال لأبرهة عليه نقش يصور انجازاته، مطلقاً على نفسه الألقاب الملكية المعروفة لملوك سبأ. كما تعرض بعض من مواد البناء كالرخام والحجارة المنقوشة بالذهب وغيرها التي نقلها أبرهة من "قصر بلقيس" لكي يشيد بها كنيسته "القليس" التي بناها في صنعاء والتي كانت سبب حملته في العام المعروف بعام الفيل 571م على مكةالمكرمة وذلك بغية صرف الحجيج عنها وتحويلهم الى "القليس". استفاد اليمنيون من موقع بلادهم الجغرافي فاحتكروا نقل البضائع والسلع والأطياب التي تأتي من الهند والحبشة الى شواطىء جزيرة العرب فنقلوها الى مصر والشام وبلاد ما بين النهرين، ويعد هذا الطريق التجاري أقدم الطرق التي عرفتها البشرية في حضاراتها. فالقاعة الأخيرة تمثل الفترة الأخيرة في التأريخ اليمني وقبل دخول الإسلام، وفيها بعض المعروضات التي تمثل التأثير اليوناني والروماني على جنوب الجزيرة العربية. كانت لممالك جنوب الجزيرة العربية سمعة كبيرة في ذلك الوقت لسيطرتها على طرق التجارة العالمية بين البحرين الأحمر والأبيض وغناها بالبخور والمر واللبان والصموغ وغيرها من المنتجات. وكان للمر والبخور أهمية خاصة في العالم القديم توازي أهمية الذهب والبترول في عصرنا الحاضر وهي من المقتنيات الثمينة إذ كانت تقدم للملوك وكانت من مستلزمات المعابد القديمة. علم الرومان بذلك كما علموا باحتكار اليمنيين لطرق النقل التجاري بين البحر الأحمر والأبيض المتوسط. ومن أجل تملك مصادر الغنى وجعل البحر الأحمر بحراً رومانياً، ومن أجل القضاء على المنافسة العربية، جهزوا حملة كبيرة من مصر بقيادة إيلوس غالليوس في العام 24/25 قبل الميلاد. لقد فشلت الحملة عند سبأ وباءت بالفشل الذريع فكانت انتكاسة شديدة لهيبة روما. كان بمعية الحملة المؤرخ سترابو 24 - 66 ق.م الذي عاش في الإسكندرية لبضع سنوات وأصبح صديقاً لقائد الحملة غالليوس. وقد ذكر سترابو ان عدد العرب قد تضاعف على الضفة الغربية من البحر الأحمر حتى شغلوا كل المنطقة بينه وبين النيل من أعلى الصعيد، وكانت لهم جمال ينقلون عليها التجارة. وقد أكدت الاكتشافات الحديثة ما كتبه المؤرخ حيث تعرض بعض الآثار منها جمال محملة بالبضائع وغيرها. أصدر المعرض دليلاً غنياً بمعلوماته، أنيقاً في اخراجه يقع في أكثر من أربعمائة صفحة احتوت البحوث والصور، جاء فيه: "ان المعروضات تمثل جزءاً غنياً من التراث الحضاري للبشرية" ويمكن مشاهدتها في فيينا وعلى بعد آلاف الكيلو مترات من موطنها الأصلي. وساهم في دليل المعرض عدد من الخبراء المختصين في تأريخ اليمن، وهو يضم بالإضافة الى البحوث صوراً لأغلب المعروضات ومنها صور تنشر لأول مرة.