تعتبر رواية "الخماسين" للكاتب الاردني العربي: المصري، العراقي، السوري، اللبناني، والفلسطيني غالب هلسا، أنموذجاً للرواية التي تحيل - بلا أي تردد - الى السيرة الذاتية لمؤلفها. وإن كان قارئها يتردد، طوال الفصول العشرة الأولى، أو يشك، في ان بطلها "غالب" هو نفسه مؤلفها، فان الفصل الحادي عشر والاخير سيؤكد ان البطل والمؤلف هما شخص واحد. ففي مطلع هذا الفصل الأخير نلتقي البطل غالب وهو يفكر "في الرواية التي بدأت كتابتها في جو الخماسين وعنه، والتي توقفت عند نقطة لم أعد بعدها استطيع أن اضيف كلمة واحدة.."، وبعد ان يتجول البطل في أجواء الاسكندرية ويشعر بهوائها الحنون المختلف تماماً عن برد القاهرة، يتولاه يقين ان الركود الذي سيطر عليه طيلة شهرين ينتهي الآن.. فقد "أخذ العالم المحيط بي يكتسب طابعه المزدوج: كونه واقعة عينية، وكونه رمزاً ومادة للفن. ثم اخذ هذا الطابع المزدوج يتوحد في اطار الرواية التي توقفت عن كتابتها". من هذه المقدمة نستطيع الدخول الى عالم الروائي الراحل، في مناسبة صدور الطبعة الثانية من "الخماسين" ضمن سلسلة منشورات افاق الكتابة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة / القاهرة، والتي يرئس تحريرها الروائي ابراهيم أصلان. سوف نتجاوز عن الاخطاء المطبعية التي لا تكاد صفحة واحدة تخلو منها... لنستعيد عوالم هلسا، بعد رحيله بتسع سنوات رحل يوم 19/12/1989، وبعد مرور حوالي ثلاثين عاماً على الصدور الاول ل"الخماسين". يجدر التنبيه، أولاً، الى ان كون الرواية تحيل الى السيرة الذاتية لا يعني حصول التماهي بينهما، ولا يعني - بالتأكيد - غياب التخييل أو الإيهام. بل ربما كان هذا النمط من الرواية هو الأكثر انطواءً على هذين العنصرين التخييل والايهام الاساسيين في صنع أي عمل روائي. لهذا ينبغي التأكيد ان ما سيقال عن البطل غالب ليس بالضرورة ان يكون عن المؤلف غالب هلسا. باستثناء عبارات قليلة عن الاردن والقرية الاردنية، فان "الخماسين" - مثل روايات غالب المصرية - تتحرّك في بيئة مصرية، وتعالج هموماً وقضايا وتفاصيل ذات طابع شديد الاغراق في المصرية. الا انه الروائي يمنح لذلك كله بعداً إنسانياً - كونياً يؤكد خصوصية الكتابة الروائية لدى هذا الكاتب المبدع. تسير الرواية في مسارات وخطوط تنبثق من ذهنية البطل / الكاتب العامل مترجماً في وكالتي الانباء الألمانية والصينية، حيث يلتقط شخوصه من اجواء العمل حيناً، ومن المقهى أو الفندق البنسيون حيناً آخر. تبدأ الرواية من لحظة توديع البطل غالب صديقته ليلى التي تندفع في "زحام تروللي رقم 17". فهي من بيئة شعبية، مثقفة وضائعة بين الماركسية والوجودية، مشتتة الذهن حول ما تريد وما لا تريد. اما هو فيعرف تماماً ما يريده منها. ومنذ الفصل الاول نكتشف لعبة الروائي الذي يكتب رواية داخل الرواية، ويتحدث عن الروايتين في انحاء من العمل. فليلى هي صديقة غالب الكاتب وبطلة العمل تقرأ مقطعاً من تأليف الكاتب في وصفها، فنظن انها تتحدث عن نفسها، لكننا نكتشف ان ما قرأته في الاوراق التي امامها ليس سوى مقطع من الرواية التي اسمها "الخماسين". ينقل غالب، بأمانة وبواقعية ساحرة، حوارات قصيرة وعادية مما يجري في البيوت والمقاهي والكاتب. الا ان حوارات ابطاله هذه ليست سوى مادة تتراكم لتكشف عن وعي وسلوك الشخوص، ما يعكس صورة من صور المجتمع وعلاقاته ذات الدلالات العميقة. ففي الحوار الذي يجري بين الصبي قرني ذي الخمسة عشر عاماً، العامل فرّاشاً في مكتب وكالة الانباء الصينية صينهوا، وبين مدير الوكالة، عبر المترجم الذي يدعى غالب، سنرى كيف ان قرني هذا يطلب قرضاً وإجازة بحجة ان امه توفيت، ولكن المدير برد عليه بان هذه هي المرة الرابعة التي تموت فيها أمه. فيكشف في عبارة حوارية جملة من المسائل، لعل أهمها هو طبيعة العلاقة التي تقوم على الكذب، ولكنه الكذب الناجم عن الفقر والتعاسة غالباً، ثم محاولة الاستغفال هذه التي تعد ميزة ولوناً من ألوان الفهلوة. وفي عبارة تطلقها الموظفة الصينية تقول للمترجم ان يخبر الصبي "انها ليست نقودنا حتى نلقيها هكذا، ولكنها عرق وكدح العمال والفلاحين الصينيين"، ليلخص لنا غالب هذه العقلية الصارمة الانضباط للمدير وللشعب الصيني، ما يعني صعوبة استغفاله، فقد استخرج المدير كراساً من درج مكتبه وأخذ يقرأ مواعيد اعطاء اجازات وقروض للصبي الفرّاش. تعدد المحاور بهذه الافكار الصغيرة، ولكن ذات العمق والاهمية، يبني غالب هلسا رواية بلا محور محدد، فالمركز هو غالب، ومن داخله ومن حوله، وفي مرمى بصره ووعيه تجري احداث وعلاقات. يحدث ان نرى ليلى التي تعشقه ولا يبادلها العشق، حائرة ومترددة وقلقة امام صلابته وقدرته على الحسم، ويسمع حوارها الداخلي، وتخيلاتها لوجود امرأة اخرى في بيته، ولكنها تخيلات أشبه بالوقائع. فهي تذهب بها الى أقصى واقعيتها كما لو انها حدثت بالتأكيد. وهذه سمة اخرى من سمات واقعية روايات غالب، حيث يعيش هو وابطاله الكثير من الوقائع عبر الحلم والخيال والرغبة. ويحدث ان البطل غالب يستبطن تجربة ومشاهدات وملحوظات اساسية ومعمقة من حياة القاهرة السياسية والاجتماعية والثقافية، فيصوغ منها عالماً روائياً يتشكل من القصص والحكايات والتفاصيل التي تؤشر الى مفاصل الحياة القاهرية في الستينات. فهو يأخذنا عبر البطل / المحور الاساس - في رحلة يطوف فيها المكاتب والبيوت، ويدخل بنا زنازين سجن القلعة ليتذكر سجن المحطة في عمان، ويطلعنا عن اجوء أتيليه القاهرة 1969 الذي انطلقت منه تجارب فنية وابداعية ليُرينا بعمق العلاقات الخاصة رجل / امرأة، ويتوغل في الحانات، ويتوقف عند حضور الاجانب في حياة تغلي، فنرى الاميركي الرافض والمتمرد، ونشهد النقاشات الساخنة في أجواء القاهرة بعد النكسة. و.. نظل مع هذيانات البطل وتأملاته ومغامراته و.. شعوره بالعزلة والوحدة القاتلتين على رغم النساء اللاتي يحطن به فلا يفعلن الا المزيد من شعوره بان ثمة مؤامرة تحاك ضده. انه البطل المأزوم الذي ترسمه روايات غالب هلسا كلها تقريباً. فهو النموذج للمثقف المهزوم امام الجميع: أمام المرأة، والسلطة، والمجتمع و"الحياة"، وامان نفسه اساساً. انه صورة من صور المثقف الملتزم - المناضل، عاشق الحياة والمرأة، الباحث عن الحقيقة، والذي تمنعه اخلاقيات النضال من كثير من شهوات الحياة وملذاتها، فهو يعيش هذه الاشياء بضمير معذب، وروح قلقة لا تستقر الى قرار. زمن الخماسين هذا هو زمن الخماسين الذي تصوره الرواية. فالخماسين هنا ليست فصلاً من فصول الخريف. انها زمن ذو أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية و... لا إنسانية. هذا الزمن المحدد في الستينات، والمليء بالمفارقات، هو ما تحتشد به الرواية وتعيد صياغته ليعكس رؤية نقدية واضحة المعالم، ومحددة المرجعية من خلال رؤية ماركسية تتسم بالجدل والاختلاف مع السائد حتى لو كان الحكم ناصرياً ذا قدرة على استقطاب الجماهير العربية "الغفورة". ولم تكن هزيمة المثقف، التي هي هزيمة المجتمع، الا بداية لهزيمة ثقافة كانت "الخماسين" رؤية تتنبأ بها، وبما قد يحدث بعدها. ففي قراءة الواقع تقبع قراءة المستقبل.. الذي هو حاضرنا الآن. في الرواية - كما ذكرت - قدر كبير من التأملات والمونولوجات التي تتغلغل الى اعماق الشخوص، ومن ثم الى اعماق مجتمع العاصمة، وخصوصاً من خلال نماذجها شديدة البؤس، النماذج الغارقة في الهزيمة والشقاء والخنوع. وهي تأملات المثقف الذي يمتلك خلفية فكرية وحصيلة لا يستهان بها،لكنه يقدمها في صوَر وعبارات تنطلق من الشارع البسيط فتكتسي بساطة في الكلمة والتصور تبدو على قدر من السذاجة، الا انها تنطوي على حكمة ورؤية ثاقبة. ولأن البطل هو المؤلف، وهو المثقف الشاهد والمشارك في حياة العاصمة من موقعه، فهو يظل ينقلنا بين تأملاته هو ذات الطابع الفكري، وبين كلام وآراء الناس العاديين. فنقرأ تأملات فكرية حيناً، كما هو حال غالب في مقهى سوق الحميدية اذ يجلس وحيداً ويطلب الشاي ويبدأ يفكر بالمسافة بين "تكتب" و"تكذب" فيقول لنفسه "كنت اريد ان اقول ان هنالك الشيء، وهنالك رؤيتنا له، اي هناك الشيء وهناك الكلمة.. ربما كانت هذه الاشياء قريبة من بعضها ولكنها مختلفة في الوقت ذاته. الديالكتيك.. أعني الحياة أرقى من الفن. أعني: صراع بين الحياة والفن.. أعني صراع بين الحياة والفن.. أعني الفن أرقى من الحياة".. وهكذا. اما الحوارات بين شخوصه البسطاء فهو يلتقطها من افواههم حرفا حرفاً. يقول مرسي "ودين النبي لا فاتح بطن عباس، لجايب المقص الكبير اللي في زودة المطبعة وفاتح بطنه بيه.. انا عندي ثمانية وعشرين سنة واللي يشوفني يقول عليّا عجوز.. الخ". نماذج من أجانب القاهرة ثمة مسألة اخيرة جديرة بالاهتمام وهي حضور نماذج من الاجانب في القاهرة /أي في الرواية .. وتبدو مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية ذات فاعلية، كل من موقعه وبحسب موقفه.. وغالبيتهم من الهامشيين ذوي المواقف اليسارية، وخصوصاً الشاب الاميركي الفوضوي، والفتاة الاميركية الهاربة من نظام الحياة الصارم في تعامله مع الزمن الى دفء البشر وعلاقاتهم الحميمة. هكذا ينقل لنا غالب هلسا، من زوايا عدة، صوراً من قاهرة الستينات الصاخبة بالحياة والتناقضات، والمحكومة بأجواء الخماسين المكتظة بالعواصف اللاهبة، لنرى مقدمات التحوّل من مصر عبدالناصر الى مصر السادات.