تشهد الساحة الشيعية من إيران إلى العراق والخليج وإلى سورية ولبنان جدلاً ثقافياً واسعاً محوره الأفكار الاصلاحية الجديدة التي طرحها السيد محمد حسين فضل الله، وقد صدرت حتى الآن مجموعة كتب من مراجع دينية في قم كالشيخ جواد التبريزي الذي كتب "اعتقاداتنا" والشيخ الوحيد الخراساني الذي كتب "مقتطفات ولائية" والشيخ محمد تقي بهجت الذي كتب "البرهان القاطع" والسيد جعفر مرتضى العاملي الذي كتب "مأساة الزهراء" ثم اعقبه بكتاب آخر "لماذا مأساة الزهراء" وكتاب آخر "خلفيات مأساة الزهراء"، والسيد محمد علي الهاشمي المشهدي الذي أصدر "الحوزة العلمية تدين الانحراف" والسيد ياسين الموسوي الذي كتب "ملاحظات". وقد تصدى لهؤلاء السيد نجيب نورالدين الذي كتب "مأساة كتاب المأساة" والسيد محمد الحسيني الذي كتب "هوامش نقدية" دفاعاً عن السيد فضل الله، كما كتب الشيخ محمد أبو السعود القطيفي "جاء الحق - دراسة نقدية للأفكار المطروحة في كتاب مأساة الزهراء"، وشارك الشيخ جعفر البحريني الشاخوري بكتاب "مرجعية المرحلة وغبار التغيير"، ورد على هؤلاء كل من الشيخ نجيب مروة الذي كتب "حتى لا تكون فتنة" والسيد محمد محمود مرتضى الذي كتب "الفضيحة... محاكمة كتاب هوامش نقدية". وقد أصدرت مجموعة من أساتذة الحوزة العلمية في قم هم: حسين الشاهرودي وأحمد المودي ومصطفى الهرندي وعلي رضا الحاضري ومحمد هادي آل راضي وحسين النجاتي وباقر الايرواني وحسن الجواهري، بياناً ينددون فيه بأفكار السيد فضل الله وآرائه التي وصفوها بأنها تتعارض مع الضرورات المسلمة عند الطائفة الإمامية، وطالبوا المؤمنين باليقضة والتنبه والابتعاد عما يستوجب من الضرورة الثابتة عند الطائفة والتصدي لما سموه بالشبهات والتشكيكات. ويقول بيان آخر صادر باسم الحوزة العلمية في قم إن الحوزة أعلنت أخيراً موقفها من فضل الله، وذلك على اثر انتشار الأفكار المنحرفة له ومخالفته لمباني العقيدة والمذهب الشيعي، كي لا تكون أفكاره سبباً في تضليل الناس أو تنسب أضاليله للشخصيات العلمية الشيعية وتحسب عليها. وقد وصف الحاج الميرزا جواد التبريزي والوحيد الخراساني في دروسهم الحاشدة في المسجد الأعظم في مدينة قم، الشخص المذكور بالمنحرف المضل، وحذروا الناس من الوقوع في شبهاته وانحرافاته. ورفض التبريزي دعوة السيد فضل الله أو استقباله في قم، خوفاً من سريان أفكاره في أوساط الناس. وأصدر المرجع السيستاني من النجف، كذلك بياناً ضد السيد فضل الله. وعلى رغم كل هذه الحملة الاعلامية الواسعة التي قام ويقوم بها الجناح التقليدي المحافظ في الحوزة سواء في قم أو في النجف، فإن شعبية السيد فضل الله امتدت واتسعت ولم تتأثر، وكثر المقلدون له في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد رحيل المراجع الكبار كالإمام الخميني والخوئي والكلبايكاني والسبزواري، ولم يستطع المراجع المعاصرون كالسيستاني والشيرازي والروحاني والتبريزي والحارساني ان يوقفوا امتداده في الساحة الشيعية، خصوصاً في لبنانوالعراق والخليج، ولم يستطع حتى مرشد الجمهورية الإسلامية السيد الخامنئي، الذي طرح نفسه مرجعاً للتقليد في خارج إيران، أن ينافس السيد فضل الله أو أن يحتويه. وعلى رغم وجود عناصر في "حزب الله" تؤيد مرجعية الخامنئي، فإن معظم أفراد وقيادات "حزب الله" توالي السيد فضل الله وترجع إليه في الأمور الدينية والسياسية، وقد اضطر الأمين العام ل "حزب الله" السيد حسن نصرالله قبل عامين إلى التنازل عن إمامة صلاة الجمعة في الضاحية الجنوبية في بيروت بأمر من السيد الخامنئي. صعود فضل الله ويعود سر نجاح السيد فضل الله وصعوده في مواجهة المراجع التقلديين وصموده ضد الحملة الإعلامية الواسعة والعنيفة، إلى عدة عوامل، هي: 1- أفكاره الاصلاحية التجريدية، ونقده وتشكيكه بالروايات الضعيفة التي سربها الغلاة إلى الفكر الشيعي، وفي هذا المجال يقول: "إن التراث الفقهي والكلامي والفلسفي نتاج المجتهدين والفقهاء والمفكرين، وهو لا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة، على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة، وبالتالي فإن الفكر الإسلامي - ما عدا البديهيات - هو فكر بشري قد يخطئ فيه البشر وقد يصيبونه". ويقول: "لا بد من الخروج من أقبية الذات والخصوصيات والحسابات الضيقة، وعلينا ان نواجه قضايانا وأفكارنا وحتى عقيدتنا بالنقد وبكل شجاعة وجرأة قبل أن ينقدها الآخرون، لأننا نملك كماً غير قليل من الموروث الذي تركه لنا الأقدمون والذي ينبغي النظر إليه بعين النقد والتحليل حتى لا نكون مصداقاً للآية الكريمة ان وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون". ويقول: "إن الحرية المطروحة هنا وهناك هي حرية مناقشة الآخر. أما ان نناقش فكرنا في عملية نقد علمي فهذا ليس وارداً، بل قد نجد هنا وهناك ارهاباً فكرياً. ولذا فإني اعتقد ان علينا أن ندرس ما عندنا وأن عليهم ان يدرسوا ما عندهم بطريقة علمية موضوعية بعيداً عما إذا كانت هذه المفردات الفكرية أو الفقهية أو المفهومية مما التزم به المتقدمون أو مما لم يلتزموا به". ومن هنا فقد قام السيد فضل الله بعملية مراجعة للتراث الشيعي، وشكك بالرواية التي تتحدث عن ضرب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه للسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها أو اسقاطها لجنينها واحراق دارها، كما حذف الشهادة الثالثة "اشهد ان علياً ولي الله" من الاذان والاقامة، وهي عادة ادخلها الصفويون في الصلاة. واعتبر الفكر الشيعي وجهة نظر في خط الاسلام، ورفض موضوع العصمة والرجعة والبداء. وقال عن موضوع الإمامة: "إنها من المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في توثيقها ومدلولها للاجتهاد مما لم يكن صريحاً بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه ولم يكن موثوقاً بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه". وانتقد السيد فضل الله التسليم للعقائد الموروثة باعتبارها "مسلمات". وقال: "إن المسلمات قد تكون ناتجة عن حالة ذهنية، وقد تصير مسلمات وهي ليست كذلك". 2- النشاط الفكري والاعلامي الكبير، الذي امتد حوالى ثلاثة عقود عبر الخطب والمحاضرات والكتب والمجلات والصحف، وامتلاكه لاذاعة خاصة. 3- النشاط السياسي ومناصرة الثورة الاسلامية ومقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان. 4- بناء قاعدة حزبية عريضة، وتربية كوادر قيادية في "حزب الدعوة" الإسلامية و"حزب الله". 5- الموقع الاستراتيجي في لبنان، والذي كفل له التحرر من هيمنة النظام الإيراني أو النظام العراقي، واعطاه القدرة على الحركة والعمل والامتداد إلى مناطق الثروة الشيعية كالخليج. 6- القدرة على جمع المال الخمس والزكاة من المريدين، وتمويل المشاريع الخيرية والمؤسسات الثقافية وما إلى ذلك. كل هذه العناصر تفاعلت وساهمت في بناء مرجعية السيد فضل الله على أسس ثابتة وساعدت على استقطاب الشارع الشيعي، خصوصاً الشباب الحركي الإسلامي الذي يتطلع إلى التجديد والمعاصرة والخروج من العزلة والعيش في الماضي السحيق، ويأمل بتحقيق الوحدة الإسلامية والتخلص من الأفكار الدخيلة والخرافات والأساطير التي مزقت المسلمين وباعدت بينهم، ولذا فإن الحملة الاعلامية التي قامت بها المرجعيات التقليدية المحافظة لم تلق اذاناً صاغية وذهبت ادراج الرياح، لأنها عزفت على أوتار بالية وقضايا تاريخية ميتة. ويقول بعض المراقبين إن الذي أشعل المعركة الاعلامية ودفع المحافظين للهجوم على السيد فضل الله واتهامه بالانحراف والضلال والخروج على ضرورات التشيع هو خبر تقديم تاجر كويتي مبلغ 120 مليون دينار كخمس وزكاة للسيد فضل الله في حين يعاني المراجع التقليديون من أزمة مالية خانقة بسبب إحجام الناس عن اخراج الخمس واعطائه لهم أو مطالبتهم بموارد صرفه. ولا يستبعد البعض الآخر وجود أصابع إيرانية وراء الحملة على فضل الله، في محاولة للضغط عليه والهيمنة على قراراته. وعلى رغم وجود فتاوى أو آراء خاصة للسيد فضل الله قابلة للنقاش والرفض أو التأييد، فإن الملاحظ ان الحملة الاعلامية المضادة له الصادرة من الحوزة في قم تحاول سد باب الاجتهاد والحيلولة دون الاقتراب من مناقشة القضايا الموروثة حتى إذا كانت هامشية في مجال التاريخ كقضية كسر ضلع الزهراء، والاحتماء بسلاح الفتاوى خوفاً من فتح ملفات أخرى أساسية في الفكر الشيعي كملف "الإمام الغائب" الذي تتخذ منه الحوزة والمرجعية التقليدية أساساً لهيمنتها المالية والسياسية والتشريعية على الأمة. وإذا كان السيد فضل الله يحجم حتى الآن في فتح هكذا ملفات أو الحديث عن موضوع "الإمام المهدي" الغائب مثلاً، فليس إلا بسبب الحملة الإعلامية الشرسة التي تنطوي على الارهاب والخوف من المضاعفات السلبية. وإلا فإن الساحة الثقافية الشيعية اليوم تشهد، على رغم كل ذلك، حوارات مفتوحة ومراجعات جذرية تحاول إعادة بناء الهوية الفكرية والسياسية بما يستجيب للتطلعات العصرية كالشورى، ويلبي حاجة الأمة ويسد ثغراتها ويعالج أزماتها ومشاكلها. * كاتب عراقي.