Pierre Vidal - Naquet. Memoires: le trouble et la lumiere 1995 - 1998. مذكرات: الاضطراب والنور 1955 - 1998. Seuil/ La D'ecouverte, Paris. 1998. 383 Pages. كلما نشر المؤرخ الفرنسي بيار فيدال - ناكيه كتاباً اصبح حدثاً ثقافياً في فرنسا. قبل مدة دار هذا الحدث حول الجزء الثاني من مذكراته في ما يخص الجزء الأول يمكن العودة الى صفحة "تيارات"، "الحياة" 26/11/1995. وما زاد الحدث الثقافي زخماً هو صدور كتاب آخر في الوقت نفسه كتبته مجموعة من الدارسين متناولين دراساته حول التاريخ القديم والحديث او نشاطاته والتزاماته في فرنسا ونحو الجزائر والشرق الأوسط، خاصة في ما يتعلق بالتقارب الاسرائيلي - الفلسطيني، او المناطق الاخرى من العالم. فخلال العقود الأربعة الاخيرة لم يتوقف هذا المثقف الملتزم عن هز الرأي العام الفرنسي ودفعه الى التساؤل. فهو من طينة اولئك الذين يتجرؤون على قول ما لا يقوله الكثيرون. فحين كتب بعد حرب الأيام الستة مقالاً يدافع فيه عن حق الفلسطينيين في تشكيل دولتهم الخاصة بهم لم يكن هناك الا القليل، خاصة بين اليهود وفي اسرائيل، ممن يتصورون مجرد امكانية التفكير بمثل هذا الموضوع، ناهيك عن ندرة عدد مؤيديه. يغطي الجزء الثاني والاخير من مذكراته فترة ما بين 1955 - 1998. تبدأ هذه الفترة بأول التزاماته السياسية التي تركزت على قضية الجزائر والتي يسميها بالمسألة الكبرى في حياته لما تركته من بصمات. دخلت هذه القضية اعماقه ودخل فيها كمناضل ضد العنف وكشاهد للتاريخ. كانت اولى شهاداته ضد السكوت المخيم في فرنسا على ما يجري في الجزائر ودفاعاً عن موريس اودن الذي قتل على يد ضباط فرنسيين وبشكل خاص ضد التعذيب الذي كان يمارسه الجيش الفرنسي هناك. فكتب في 1958 كتابه المشهور "مسألة اودن" لتنبيه الرأي العام وشجب مثل تلك الممارسات التي كانت تشكل في حد ذاتها فضيحة سياسية كبرى. وكأنه كان يطبق عبر مواقفه ما حفّظه اياه ابوه من كلمات شاتوبريان حول واجب المؤرخ: "حين لا نسمع عبر سكوت الدناءة غير صدى قيد العبد وصوت النمّام، حين يرتجف كل شيء في حضور الطاغية وحين يصبح خطر طلب الحظوة عنده مثل خطر استحقاق غضبه. عند ذاك يبدو المؤرخ مكلفاً بأن يثأر للشعوب". كان موريس اودن شاباً ينتمي الى الحزب الشيوعي الفرنسي المعادي للحرب الفرنسية في الجزائر ويعمل معيداً في قسم الرياضيات في جامعة الجزائر. ألقت القوات الفرنسية القبض عليه في 11 حزيران يونيو 1957 وأعلنت السلطات انه هرب اثناء نقله بسيارة رسمية بعد ذلك بعشرة أيام. الا ان هذا الأب لثلاثة اطفال، وكان عمر اصغرهم آنذاك شهراً واحداً، لم يعثر عليه احد. الا ان العديد من المطلعين على الوضع في الجزائر لم يصدقوا الرواية الرسمية للحادث. وكان هناك شهود يؤكدون بأن اودن عانى بعد القاء القبض عليه من التعذيب ولم يكن باستطاعته ان يهرب، وان الرواية كانت ملفقة تماماً يراد منها التستر على المسؤولين عن موته. والحقيقة ان ضابطاً في الجيش الفرنسي قتل موريس اودن في 21 حزيران خنقاً وأخفيت جثته. وأحدث كتاب بيار فيدال - ناكيه ضجة كبيرة حول الموضوع وسانده عدد من كبار المثقفين والكتّاب الفرنسيين منهم جان بول سارتر. الا ان نشر هذا الخبر لم يؤد في حينه الى اتخاذ اية اجراءات قانونية بحق الضابط الذي استمر في عمله وفي ترقياته ايضاً. كانت مسألة ممارسة التعذيب في ذلك الوقت من اكثر المسائل حساسية في السياسة الفرنسية. والحديث عنها يعد مجازفة كبيرة. فكل المجلات والجرائد التي نشرت مقالة او وثيقة محرجة للسلطة عانت من الرقابة ومنعت من البيع. ولم يفلت من ذلك حتى مجلة سارتر "الازمنة الحديثة". كان الكثيرون في تلك السنوات يدركون ان القوات الحكومية تمارس التعذيب الا ان احدا لم يكن يستطيع ان يفكر بامكانية ممارسته ضد الفرنسيين. وكانت اخبار تعذيب الفرنسيين اكثر وقعاً في الناس من تعذيب الجزائريين. ومن بين الفرنسيين الذين عانوا التعذيب هنري اليغ المشهور في العالم العربي. ولم يكن بيار فيدال - ناكيه يجهل ما كان يقترفه مجاهدو جبهة التحرير الجزائرية من فظائع ضد منافسيهم. وكان اكثر هذه الافعال وقعاً في الناس اكتشاف جثث ما يقرب من ثلاثمائة قروي من انصار الحركة القومية الجزائرية برئاسة مصالي الحاج قتلتهم قوات جبهة التحرير الجزائرية لاخافة الناس وللانفراد بالسلطة. فكتب بيار فيدال - ناكيه مندداً بمثل تلك الممارسات ايضاً. كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية تنظيماً يخفي ضعفه عبر الممارسات القمعية. واستطاع اعداؤها ان يستغلوا الى حد بعيد هذا الجانب من سياساته ويبرزوا الجانب السيء من جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وعندما كتب رجل القانون موريس دوفيرجيه مقالة في 1960 ضد الخيانتين: التعذيب والفرار من الجيش رد عليه عدد قليل من الناس من بينهم بيار فيدال - ناكيه الذي مجد الرفض الجماعي للحرب. ووقع ما اشتهر فيما بعد ببيان المئة والواحد والعشرين والذي دافع فيه موقعوها عن حق رفض الخضوع للأوامر في الحرب الجزائرية. وذهب هو الى ابعد من ذلك في تبني فكرة التحالف مع جبهة التحرير ولكنه رفض بشدة الخضوع لها خضوعاً لا يمكن وصفه بغير الستالينية. بيار المتخصص في التاريخ اليوناني القديم والمعترف به كأحد اعمدة الدراسات الاكاديمية في هذا المجال كتب حول حرب الجزائر اربعة كتب تعد من اكثر الكتب تأثيراً في الرأي العام، خاصة كتابه الأول عن مسألة اودن، والثاني عن المصلحة العليا للدولة الذي صدر في 1962. وكتب كتابين آخرين اولهما حول جرائم الجيش الفرنسي في الجزائر وصدر في 1975، والثاني كان يتعلق بمسألة التعذيب في الجمهورية الفرنسية. عن تلك الفترة من حياته كتب بيار فيدال - ناكيه: "من 1958 حتى 1962 كنت أريد ان أناضل بتفكير. لم اكن انسى لحظة واحدة اني كنت مؤرخاً. كانت هناك مسألة الحقيقة ومسألة الحرية. وكان المهم اطلاع الرأي العام رغم الرقابة التي تمنع الكتب، خاصة مطبوعات دار نشر مينوي وفرنسوا ماسبيرو". ثم بدأت فترة الدفاع عن الشعب الفلسطيني. نراه يكتب عن زيارة قام بها الى الأراضي المحتلة عام 1982: "ما من احتلال تحلو للانسان مشاهدته. ان اكون شاهدا لاحتلال من قبل جيش يهودي، يفاجئني ويذهلني بكل عمق، ولأسباب واضحة. النظرات التي كانت تقع علينا في غزة كانت تعبر عن مشاعر كثيرة داخل هذه المنطقة المتفجرة. ولم يكن احد يشك آنذاك في ان الجيش الاسرائيلي يتهيأ للتقدم الى جنوبلبنان". وعندما بدأت عملية اجتياح لبنان كان اول رد فعل لبيار فيدار - ناكيه مقالة في احدى كبريات الصحف الفرنسية تحت عنوان: "كذب، جرم وانتحار". وصعد الى الصف الأول كرئيس للجنة اليهود المعادين للحرب في لبنان. وساهم في تنظيم مظاهرة امام السفارة الاسرائيلية بعد ايام من الاجتياح. فكان ما عاناه هذا الانسان الذي تعود ان يسميه المتعصبون اليهود باليهودي اللاسامي، ويسمع الشتائم التي كان اللاساميون يوجهونها الى اليهود. بقي دائما من العاملين للتقارب الفلسطيني - الاسرائيلي. وحين كان يحض صديقه عصام السرطاوي على البحث عن الحلول والتقارب كان الفلسطيني يرد على متخصص تاريخ اليونان القديم: "انت تذكرني بقصة اسكندر الكبير حين كان صغيراً. فكلما جاؤوه بخبر انتصارات ابيه كان ينفجر بكاء. وعندما يسألونه عن سبب بكائه، كان يرد: بعد كل هذه الفتوحات التي يقوم بها ابي، ما الذي سيبقى لي كي افتحه؟ بيار، لو وجدنا، انت وأنا، حلولاً لكل المشاكل العالقة، فماذا سنترك للآخرين؟". وبقي ايضاً مخلصاً لأصدقائه مثلما ظل مخلصاً لالتزاماته ومعتقداته وقضاياه. فهو الذي يقول ان "الانسان يقاس بحجم اخلاصه". وتحمل مسؤولية التزاماته مثلما يحمل مسؤولية اخطائه: فپ"الذي يلتزم الدفاع عن قضية يجب، في كل الحالات تقريباً، ان يقبل بالعمل في البداية ضد الاكثرية من الرأي العام. فالالتزام يعني المخاطرة بأن يكون الملتزم لاشعبياً". ولا مفر من الوقوع في الاخطاء. والمهم بالنسبة لمن يلتزم خدمة قضية ان يتحمل المسؤولية ويعترف بعد ذلك بأخطائه اذا ما وقع فيها. ينتهي الكتاب بالحديث عن لوحة لبيوتر بروكل الذي عاش في القرن السادس عشر. في تلك اللوحة مجموعات من الناس، بينهم انسان يتألم ويتعذب من الجروح التي تؤذي جسمه ولا احد يبالي به. كل يهتم بما لديه. "ضد هذه اللامبالاة التي عبّدت الطريق امام الكثير من المذابح، كما كان الحال في رواندا عام 1994، احاول منذ شبابي، ان اناضل". هناك الكثيرون ممن سيشهدون على دفاع بيار العادل عن الضعفاء دون هوادة او تعب.