ما زال بعض اليسار الأوروبي يحن إلى الإمبراطوريات الاستعمارية. إمبراطوريات الرجل الأبيض الذي أخذ على عاتقه نشر الحضارة. لم تغير السنوات الكثيرة التي مرت على نهاية الاستعمار، ولا الدماء الغزيرة، ولا السقوط الأخلاقي المريع هذه النظرة العنصرية. بل انتقلت إلى بعض اليسار المتهالك في بلادنا أو بعض التائبين منه. يسار يعتقد لشدة عنصريته أن الصهيونية اليهودية جزء من الحملة الغربية لنشر الديموقراطية والحرية والتقدم في العالم الثالث. تائبون يؤمنون بالأساطير الصهيونية. علمانيون يؤمنون بوعد توراتي إلهي لليهود. ويضيفون إليها خرافات جديدة، مثل الخرافة التي يروج لها الفيلسوف الفرنسي «الجديد» برنار هنري ليفي (سبقه إليها كتاب عرب) وملخصها أن الحاج أمين الحسيني مسؤول عن الهولوكوست، وعن نشوء دولة إسرائيل لأنه التقى هتلر. ليفي (يهودي فرنسي من مواليد الجزائر) معروف في الوسط الثقافي بأنه منظر صهيوني من طراز وضيع. يزوِر الوقائع والتاريخ. هو بالنسبة إلى المؤرخ المعروف بيار فيدال ناكيه «مرشح متواضع المعرفة لنيل شهادة البكالوريا». تبرأ منه جيل دو لوز عندما حاول الاحتماء به لمواجهة سخرية المثقفين. احتقره المثقفون الأميركيون عندما أصدر كتابه «فيرتيغو» (الدوار)، على رغم أنه أصدره للدفاع عن سياسة الرئيس جورج بوش، أو ربما بسبب ذلك. لكن ليفي ناجح. تفتح كبريات الصحف له صفحاتها. هو كاتب في جريدة «لو موند» وفي أسبوعيتي «لو نوفيل أوبسيرفاتور» و «لوبوان». وصديق لرؤساء تحريرها. وللرئيس نيكولا ساركوزي. ولرجال الأعمال والمتمولين الكبار التواقين إلى صداقة المثقفين. (لو موند ديبلوماتيك). باختصار تحول الفيلسوف إلى رجل علاقات عامة ناجح. يستغل علاقاته والصحف التي يكتب فيها للترويج للصهيونية. ذهب إلى إسرائيل. التقى القادة العسكريين ووزير الدفاع. كتب عن «جيش الدفاع» ان جنوده «شباب هواة في مقتبل العمر يخافون كالصغار في كل مرة يطلقون قذائف مدفعيتهم». عندما سئل المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند، صاحب كتاب «كيف تم اختراع الشعب اليهودي»، عن ليفي وصفه ب»المنافق». وكان الفيلسوف كتب أن «جيش الدفاع» اتصل هاتفياً بالعرب (أهل غزة) يطلب منهم الهرب قبل القصف. وفعل كل شيء لتجنب الضحايا المدنيين. وتساءل صاند: «إلى اين تهرب العائلات الفلسطينية؟ حقاً لقد اتخذت إسرائيل كل الاحتياطات. ولكن لمصلحة جنودها. إن هؤلاء الموتى (الفلسطينيون) هناك يشغلوننا كثيراً». وشبه صاند إسرائيل باللقيط: «طفل جاء إلى هذه الدنيا ثمرة عملية اغتصاب. له الحق في الحياة. إن إنشاء إسرائيل عملية اغتصاب للسكان العرب في فلسطين. ثمرة هذا الاغتصاب هي المجتمع الإسرائيلي الذي تشكل ونما على مدى سبعين عاماً. لا نعالج مأساة بخلق مأساة أخرى. لهذا الطفل الحق في الوجود، على ان نعلمه كي لا يكرر صنيع أبيه. دعونا لا نبحث عن أعذار. لا ننس أن الذين يطلقون صواريخهم على عسقلان يعرفون أنها أقيمت على أنقاض بلدة عربية كبيرة طرد منها آباؤهم». نمطان من العنصرية: الأول أوروبي نشأ وترعرع في أحضان اليسار، حمله معهم «مناضلون» عندما انتقلوا إلى أقصى اليمين، مثل ليفي والفيلسوف الآخر أندريه غلوكسمان. والثاني يمثله صاند والمؤرخون الإسرائيليون الجدد. الأول متمترس في غيتو ثقافي يحاكي الجدار العنصري، لحماية إسرائيل يتخذ الهولوكوست حجة. والثاني توصل، عبر التجربة، إلى أن حمايتها لا تكون إلا بقراءة ثانية لتاريخها والاعتراف ببعض حقوق الفلسطينيين والابتعاد عن الأساطير المؤسسة للدولة طالما أنها أصبحت راسخة تستطيع البقاء في محيطها.