بعد ان توّج الاتحاد الاوروبي وجوده باصدار عملته الموحدة "اليورو"، وحاز موافقة 11 من اصل 15 دولة على الاتحاد النقدي، حان وقت معالجة امر المتخلفين الذين يشتركون مع جماهير لا يستهان بها في الدول المنضمة في موقفها تجاه سلبيات لا ينفي اشد المتحمسين للاتحاد وجودها وضرورة معالجتها في اطار مشروع تحديثي. تنصب اهم الانتقادات على ان جهاز المفوضية الاوروبية غير منتخب بشكل مباشر. وهذا يطال القاعدة الدستورية للاتحاد، ويتطلب العمل لترسيخ قواعده وتحديث آلياته التنفيذية معاً. وهو تحديث لا يرمي الى زيادة نجاعته وفاعليته، بل يرمي الى معالجة شعبيته بين جماهير الدول الاعضاء. تنبع معظم المواقف الشعبية غير الايجابية من صعوبة فهم التعقيدات الاقتصادية والسياسية في نظام الاتحاد. وساهمت اجهزة الاتحاد في توسيع الهوة بين القمة والقاعدة، لاسباب من اهمها البيروقراطية التي ادى تفشيها الى اعادة فرض آلية الرقابة والمحاسبة، وهو امر لم ينكره من تسنموا اعلى المسؤوليات مثل رئيس المفوضية الاوروبية السابق جاك دولور. من ابرز مبررات دعوات التحديث الراهنة، اعتبار آلية النظام الذي ساد في فترات التحضيرات والاجراءات التمهيدية تختلف عن آلية النظام الذي يرافق الانطلاقة الكبرى بوضع النظام النقدي الاوروبي الموحد موضع التنفيذ واصدار العملة الموحدة. فالنظام الجديد يستوجب اتخاذ اجراءات متممة، كتحقيق التناغم بين الانظمة الضريبية، وارساء اسس معدلات الفائدة، وتحقيق المزيد من خطوات الاندماج والتنسيق السياسي والامني. ولعل من حسن حظ الاتحاد وتفاؤله بتحقيق تناغم سياسي بين حكوماته، التحولات التي جرت في السنوات القليلة الماضية التي ابعدت الاحزاب اليمينية المحافظة في الدول الاكبر فرنساوبريطانياوالمانيا وجلبت الاحزاب المسماة اشتراكية الى الحكم، بعد تحولها نحو الوسط او يسار الوسط. ولهذا حين يقال ان المفوض الاوروبي جاك دولور يحاول ضم الاشتراكيين الحاكمين الآن في برنامج للتحديث، بغية انعاش المشروع الاتحادي في اوروبا، يدعو في الواقع يسار الوسط الاوروبي للوقوف خلف مشروع التحديث. واول مناسبة يمكن الاستفادة منها هي مؤتمر الاحزاب الاشتراكية الاوروبية في مطلع آذار مارس المقبل. يتلخص المشروع التحديثي الاول بترشيح احزاب وحكومات يسار الوسط لشخص يكون رئيس المفوضية الاوروبية المقبل، ويدعم اعضاء البرلمان الاوروبي المرشح الذي سيتمتع بشرعية ديموقراطية عبر انتخابات البرلمان في حزيران يونيو المقبل الذي سيكون تصويتاً على النواب وعلى رئيس المفوضية الاوروبية. وبامكان البرلمان استخدام حق النقض الفيتو على ترشيح رئيس المفوضية بموجب الصلاحية الجديدة التي اصبح يتمتع بها في معاهدة امستردام التالية لمعاهدة مايستريخ التي ارست اسس الاتحاد. ولهذا فان الخطة الجديدة هي اضافة آلية تجعل الاتحاد الاوروبي يوجد رئيس مفوضية مجهزاً بتفويض يتخطى الحدود القومية بشكل اوسع مما يفعله كشخص سياسي وحسب. ويسد الاقتراح الجديد الطريق على الشخص المزكى حالياً للمنصب، وهو رئيس الوزراء الايطالي الاسبق رومانو برودي، وهو لا ينتمي الى حزب اشتراكي اوروبي، ولهذا ينظر الايطاليون الى المشروع بأنه التفاف من قبل باريس وبون لاختيار وزير مالية المانيا الحالي اوسكار لافونتين رئيساً للمفوضية. المشروع التحديثي الثاني هو ايجاد هيئة شبه حكومية مؤلفة من نواب رؤساء الوزراء في دول الاتحاد الاوروبي يجتمعون كل اسبوعين في بروكسيل لتنسيق السياسات والتشريعات والقضاء على البيروقراطية في الاتحاد الاوروبي وفي الدول الاعضاء. وتؤدي هذه اللقاءات نصف الشهرية الى ابرام بنود جدول الاعمال مع رئيس المفوضية، مع التركيز على الاساسيات في برامج محددة جيداً، وسيكون البرلمان الاوروبي بعد ذلك سعيداً بتنظيم عمله وفقاً لذلك الجدول. وسيقدم المشروع المحضّر بشكل جيد المنشور في صحيفة "فيغارو" الفرنسية، النائب الاوروبي عن لوكسمبورغ ونائب رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان الاوروبي بن فايوت في مؤتمر الاحزاب الاوروبية الاشتراكية المشار اليه. ويذكر ان رئيس المفوضية الاوروبية الحالي جاك سانتير يدعم مشروع تشكيل مجلس نواب رؤساء الوزراء الاوروبيين، واذا تمت الموافقة، فان المشروعين التحديثيين سينعشان دور بروكسيل كعاصمة حقيقية تعمل من اجل اوروبا. فوجود الرئيس الحالي المنتخب بشكل غير مباشر، ومجلس تنفيذي، يشكل سلطة حقيقية ليتحدث ويفاوض نيابة عن الحكومات مدعوماً بالقوة الممنوحة للبرلمان الاوروبي بموجب معاهدة امستردام . وبموجب المشروع الجديد سيكون للمؤسسات الدستورية الرئيسية، وهي رئيس المفوضية، والمجلس التنفيذي والبرلمان، شرعيتها الديموقراطية الممنوحة عبر الانتخاب المباشر، خصوصاً في ضوء قلق بعض الحكومات من السلطة السياسية المستقلة لرئيس المفوضية. ومن الطبيعي ان يلقى هذا التحديث معارضة ممن يملكون هذه الصلاحيات في الوقت الراهن مثل وزراء خارجية دول الاتحاد، ومجلس الممثلين الدائمين ال 15 في بروكسيل الذي يدير جهاز الاتحاد بشكل يومي، وذلك بطرح الشكوك عن نظام يحتاج الى عملية مساومة ، ويصبح الامر كله خارج صلاحياتهم. والواقع ان لجنة الممثلين الدائمين تدار من موظفين غير منتخبين، وهذا ما يفسر تراكم البيروقراطية والسرية التي يرى المخلصون مثل دولور انها اساس مشاكل اوروبا. وتعكس مقترحاته شعور الاحباط الكبير بين انصار اوروبا، بسبب البنية الدستورية الراهنة التي هي اكبر مشاكل الاتحاد. يقول دولور: ان النظام بيروقراطي كثيراً، وبعيد عن تصويت الناس، ومكبل باجراءات تجعل من الصعب حيازته رضا الجمهور. يشكل مشروع التحديث الجديد حلقة في سلسلة التحولات التي طرأت على الاتحاد الاوروبي المبرهنة على حيويته وقدرته على تجديد نفسه وتجاوز عقباته اثناء الممارسة، وليس استناداً الى افتراضات وشروط مسبقة. وهو بهذا تجربة رائدة جديرة بالدراسة لدى كل مضطر للتعاون والتكامل الاقليمي. * كاتب سوري مقيم في بريطانيا.