ما أن بدأت في 7 كانون الثاني يناير الجاري اول مباحثات مباشرة بين اقدم حركة حرب عصابات في تاريخ كولومبيا "القوات المسلحة الثورية لتحرير كولومبيا" والحكومة التي يرأسها اليميني المحافظ اندريس باسترانا، الذي تولى رئاسة البلاد في 7 آب اغسطس الماضي، بعد فوزه في الانتخابات التي جرت في حزيران يونيو 1998، حتى شنت الميليشيات اليمينية حملة قتل ومجازر جماعية ضد المزارعين. وكانت حصيلة ضحايا جرائم القتل التي نفذتها فرق الاعدام في اقليم بوتومايو ومقاطعة لاهورميغا ومنطقة سبانالرغا أكثر من 130 فلاحاً اتهموا بتأييد القوات اليسارية. كان التوصل الى سلام مع المجموعات المسلحة المتمردة في بلاده احد اكبر الاهداف التي اعلن عنها خلال حملته الانتخابية، وربما كانت وراء فوزه في انتخابات شهدت اكبر اقبال على صناديق الاقتراع في تاريخ كولومبيا بحثاً عن هذا السلام المفقود، الذي غاب اكثر من 40 عاما. على رغم غياب زعيم المتمردين مانويل مارولاندا المعروف بلقبه الشهير "الطلقة الثابتة" عن اللقاء الاول الذي تم في منطقة "سان فيثنتي دي كاغوان" التي تسيطر عليها قوات المتمردين، وفسره البعض لأسباب أمنية، الا ان الرئيس الكولومبي اعرب في ظل حراسة رجال العصابات وبحضور حرسه الشخصي، وعدد كبير من الشخصيات الكولومبية العامة، في مقدمهم الروائي غابرييل غارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982 عن امله في استمرار اللقاءات بين المتمردين واللجنة التي اعدها للدخول في مباحثات السلام حتى يمكن التوصل الى حل نهائي. لكنه حذر من ان هناك افقا زمنيا وضعته حكومته للتوصل الى ذلك السلام المنشود، وان هذا الزمن لا يمكن ان يمتد بلا نهاية. اعلن الرئيس اندريس باسترانا عند توليه السلطة في آب الماضي انه وضع برنامجا زمنيا ثلاثي الابعاد، خصص منه الاشهر الثلاثة الاولى من 7 آب الى 7 تشرين الثاني نوفمبر 1998، للتمهيد والاعداد بين الجانبين. ثم تبدأ الاشهر الثلاثة الثانية من 7 تشرين الثاني 1998 الى 7 شباط فبراير 1999 للبدء في الاعداد لاجراء مباحثات جادة طبقا لجدول معد من الجانبين، يتم خلالها اخلاء القوات المسلحة ورجال البوليس الحكوميين من المنطقة التي تسيطر عليها القوات المسلحة لتحرير كولومبيا، التي تصل مساحتها الى نحو 47 الف كيلومتر مربع، في مقاطعتي "ميتا" و "كاكيتا"، التي تضم منطقة اللقاء الاول في مباحثات السلام بين الجانبين. لكن التخوف الذي ابداه بعض اعضاء الكونغرس الاميركي من ان يستغل رجال العصابات خروج الجيش والبوليس الحكومي من المنطقة للسيطرة على مزارع الكوكا المنتشرة هناك، وتعتبر مصدراً للمخدرات التي يتم تهريبها الى داخل الولاياتالمتحدة، دفع بحكومة الرئيس باسترانا الى العمل على اجراء لقاءات مباشرة بين المتمردين ومسؤولين اميركيين لبحث هذا الامر، خصوصاً وأن الحكومة لا ترغب في اي خطوة من جانب الولاياتالمتحدة يمكنها ان توقف مسيرة السلام الذي يبحث عنها الرئيس الكولومبي، وهو يعرف ان معارضة اميركا لهذا الاتفاق سوف يحكم عليه بالفشل المؤكد. لذلك سبق هذا اللقاء التاريخي لقاء آخر مهم تم بين مندوبين لرجال العصابات ومسؤولين اميركيين برئاسة فيل شيول ممثل وزارة الخارجية الاميركية في المنطقة جرى ليلة عيد الميلاد في سان خوسيه دي كوستاريكا، بايعاز من جانب الحكومة الكولومبية التي تخشى غضب الولاياتالمتحدة ان تم التوصل الى اتفاق سلام مع رجال العصابات من دون معرفتها بدقائقه، خصوصاً ان الولاياتالمتحدة تولي اهتماماً بمناطق زراعة الكوكا التي تقع في نطاق سيطرة رجال العصابات وتعتقد انها مصدر المخدرات التي يتم تهريبها الى الولاياتالمتحدة. لكن يبدو ان هذا اللقاء لم يكن كافيا لوضع الولاياتالمتحدة في اطار مباحثات السلام بين الحكومة الكولومبية والمتمردين، خصوصاً في ظل اصرار الجانب الاميركي على ان يتضمن اي اتفاق للسلام بين الجانبين، على التخلص من مزارع الكوكا باحراقها عبر غارات جوية بالطائرات وباستخدام مواد كيماوية حارقة، وهو الامر الذي يعارضه المتمردون، لان هذه العملية سوف ينتج عنها تدمير الارض ذاتها فلا تصلح للاستخدام في زراعة اي محاصيل اخرى بديلة. وترى حكومة الرئيس باسترانا الرأي نفسه، لذلك طلبت من الولاياتالمتحدة ان يكون التخلص من مزارع الكوكا باقتلاع شجيراتها واحراقها خلال عمليات ارضية في المزارع الصغيرة المنتشرة هناك، وان يتم الاحراق بالطائرات والمواد الكيماوية فقط بالنسبة للمزارع الكبيرة التي تزيد مساحتها عن 2000 هكتار وهي محدودة جدا، ويملكها عادة تجار المخدرات المعروفون، ولا علاقة لرجال حرب العصابات بها. في اللقاء بين ممثلي المتمردين والمسؤولين الاميركيين كانت هناك اسئلة اخرى عن الهدف من وجود 300 خبير عسكري اميركي في كولومبيا، إذ تؤكد الولاياتالمتحدة ان وجودهم ضروري لتدريب حوالي الف من الجنود الكولومبيين على الاساليب الحديثة لمكافحة المخدرات، وهو الامر الذي يثير شكوك المتمردين، لان عدد الخبراء مبالغ فيه. وتزداد مخاوف المتمردين من كثرة المعلومات التي توجد لدى الولاياتالمتحدة عن مناطق تجمعاتهم ومعسكراتهم وتنقلاتهم، ويتم جمعها من اقمار التجسس الاصطناعية. وتخشى قيادة القوات الثورية لتحرير كولومبيا ان تتدخل الولاياتالمتحدة في مسيرة المباحثات بتقديم معلومات عن تحركاتهم تسمح للجيش الكولومبي بخرق اي اتفاق وشن هجوم الهدف منه اغتيال القيادات الرئيسية للمتمردين كما حدث من قبل مع جماعات مسلحة اخرى القت السلاح وتم تصفيتها قبل عودتها الى الحياة المدنية. على رغم هذه المخاوف يبدو الرئيس باسترانا متفائل جدا، خصوصاً ان اتصالاته بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو أدت الى استعداد للتدخل لدى الثوار الكولومبيين بسبب تأثيره الكبير عليهم. وقال الرئيس الكولومبي في احاديث صحافية انه طرح هذا الامر على كاسترو خلال لقاء زعماء دول اميركا اللاتينية الذي جرى العام الماضي في البرتغال، ووجد تشجيعا من جانبه لوقف نزيف الدم في كولومبيا مقابل ان يتمتع الثوار بكيان سياسي يمثلهم في الحياة المدنية لبلادهم. لذلك من المنتظر ان يقوم الرئيس باسترانا بزيارة للعاصمة الكوبية هافانا في خطوة أولى يقوم بها رئيس كولومبي للجزيرة، يحاول خلالها الحصول على الدعم المباشر من كاسترو لتذليل العقبات التي يمكن ان تثير مخاوف قادة الثوار. لانه من خلال الدعم الكوبي وتحييد الولاياتالمتحدة، لا يمكن التوصل الى اي اتفاق سلام حقيقي يعيد لكولومبيا امانها المفقود. لذلك يرى بعض المراقبين ان هجمات فرق الاعدام اليمينية اشارات خطيرة ضد مبادرة الرئيس للمصالحة مع الثوار ومصافحة الزعيم الكوبي. وتتخوف المصادر من أن تكون واشنطن دخلت على خط المفاوضات وسربت معلوماتها للميليشيات اليمينية وحرضتها للقيام بعمليات القتل والابادة لاحباط مشروع السلام وتعطيل زيارة الرئيس الكولومبي لجزيرة كوبا.