من أجمل الآيات ذات التقرير الذي يخلب الألباب ويقعِّد للرسالة قواعد متينة قوله تعالى: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنت تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون"، وهذه الآية كانت جوابا ملجما وحجة عقلانية لإنسانية الرسالة النبوية الموحدة بين دين الفطرة والدين المنزل، كانت الآية تكرس مساواة البشر أما الحقيقة المتعالية الوحي (الآية الشرعية) والكون (الآية الكونية)، وأن مهمة الرسالة ليس في تكريس عبودية الإنسان لمثيله الإنسان بتقديسه وطاعته المطلقة فحقيقة الرسالةوفكرة رسلها ومن سلك طريقهم ودربهم هو تحرير الإنسانية من رق العبودية ممن يدعي امتيازات على البشر في امتلاكه حقائق الوحي (علماء في الدين) أو حقائق الكون (علماء في الطبيعة) ومن يسلك درب هذين النوعين ممن يعملون لأجلهم تابعين أو من يعمل لهم (متبوعين)، بل دعوتهم ومقاله) للناس هو بالدعوة لأن يكونوا (ربانيين)، فهذا هو واجب الرسل والدعاة المتشبهين بهم ان يقولوا للناس (كونوا ربانيين)، ولا تزعم الربانية لشخص دون آخر بل نفيت الربانية بمعنى الفاعل ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وقوله في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)، ولقد كان عدي بن حاتم رحمة للأمة عندما كان سببا في كثير من الأسئلة التوضيحية لحقيقة الرسالة في استشكاله لقوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون) قال: إنا لسنا نعبدهم يارسول الله؟ قال رسول الرحمة: أليس يحرمون ما أحل الله فتطيعونهم! ويحلون ما حرم الله فتطعيونهم. إذا الربانية بمعنى الوصف الفاعل (أرباب) الذي يقتضي الاختصاص بمعنى الطاعة لأفراد معينين بدون أن يكون معيارهم هو طاعة ما يعتمدون عليه من الوحي المعصوم أو المعتمد على إجماع معصوم يعتمد على حياة الأمة الشرعية والعلمية والعملية. بل جاءت رسالة الأنبياء تأكيد نفي هذه الربانية من أفراد معينين من خلق الله بل نفاها من أفضل خلقه الذين هم (الأنبياء والملائكة) وتحقيقها الربانية في الإنسان بشروطها الشرعية والخلقية المكملة للشرط الخلقي الموجود اساسا في الانسان وهو الخلافة العامة للإنسان، والربانية هو تكميل للخلافة العامة بخلافة خاصة تتوفر فيها شروط الربانية القرآنية. لماذا هذا التركيز من الإسلام ومن رسول الإسلام ومن دعوة الأنبياء في نفي الربانية من خلق الله وبثها تحقيق الربانية في الإنسان بشروطها القرآنية؟ الجواب يأتي بعد العلم بحقيقة مهمة في الكون ألا وهي ان اشكالية الإنسان في الحياة تكمن في عجزه عن استيعاب الوجود باطلاق وفهم حقائقه ومراميه وفهم اشيائه وقيمه وهذا الامر جعل الانسان يستبد بأخيه الانسان ويصبح كما قال بعض الفلاسفة ذئبا له، فيدعي تملكه زمام الحقيقة شرعية كانت او كونية طبيعية او يدعي التكلم باسمهما وحراستهما شكلا واستبدادا، وبعد ذلك يكون من هذا الانسان المستبد ما أمكن من تحكم بالسلطة الدينية او الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو العلمية، وهذا الأمر في كل أمم التاريخ والتي بث القرآن بعضا من أهم قصصها كانت اعظم نقطة افتتح بها القرآن سورة (التي هي سورة البقرة) هو التأكيد على حقيقة ضرورية طبعية عقلية ألا وهي قوله في وصف المؤمنين (الذين يؤمنون بالغيب) هذا الإيمان الذي لا يعني سوى انه ضرورة من ضروريات الحياة بأن يكون الإنسان الملازم للعجز والقصور مؤمنا بالغيب الذي يعني وعي الانسان بعلمه بوجود ما يغيب عنه ويجهله من الاحاطة والعلم بحقائق الاشياء ومآلاتها (في الطبائع)، وبقيم الاشياء ومحدداتها في الشرائع، ومرحلة الايمان بالغيب هو قمة مراحل الوعي) بالعقل البشري بموقفه من الوجود، لذا كانت رسالة الوحي جزءا من رسائل الله للانسان لأن رسائل الله للانسان نوعان رسالة الوحي (الآية الشرعية) ورسالة الكون (الآية الكونية)، فلرسالة الوحي تذكير للفطرة الناسية من الشرك للتوحيد وتسديد للقيم المنحرفة من الاستبداد للحرية التي تقوم بدورها في استكشاف وتحقيق القيم المبثوثة في الوحي والكون (الآية الكونية)، فرسالة الوحي تذكير للفطرة الناسية من الشرك للتوحيد وتسديد للقيم المنحرفة من الاستبداد للحرية التي تقوم بدورها في استكشاف وتحقيق القيم المبثوثة في الوحي والكون. كانت دعوة القرآن: قل يامحمد تعالوا ياأهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أولا: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا وهو القسم المتعلق بالتوحيد، ثانيا: ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهو القسم المتعلق بالاستبداد والتشريع الذي عالجه القرآن بتعليقه بالناس (كل المؤمنين) الربانية في قوله (ولكن كونوا ربانيين) والوصف بالخيرية المشروط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أمر كلي في جميع شؤون الحياة من السلطة التشريعية الى السلطة التنفيذية مرورا بجميع مؤسسات المجتمع، وهي نفسها شروط الاستثناء من الخسر في سورة العصر والتي تقتضي أن يكون الناس على التعيين وليس على الكفاية يقومون بواجب التواصي بالحق والتواصي بالصبر ما (استطاعوا الى ذلك سبيلا) فاتقوا الله ما استطعتم اذن عجز الإنسان وعلمه بمحدودية ادراكه للوجود أشيائه (= الطبيعة)وقيمه (= الشرائع) سدده الوحي بوضعه حلا لهذا العجز الانساني برفض الاستبداد العلمي (ديني أو دنيوي) أو الاستبداد العملي (روحي أو سلطوي) (لا إكراه في الدين - لست عليهم بمسيطر) وجعل المرجع لتسديد الناس نوعان من الشروط: النوع الأول: التسديد بالوحي والطبيعة بالتأكيد على عدم تناقضهما لأمرين هما توحيد المصدر المطلق المتعالي (الله سبحانه وتعالى)، ونسبية ومحدودية المتلقي في كل (الإنسان = خليفة الله في الأرض) والنوع الثاني: شرط التسديد بالناس كل الناس في ما أسماه القرآن بالتواصي أو الشورى او الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو شرط الضمانة من انحراف الأفراد من خلال سياسات الاستبداد التي استخدمها البشر طوال تاريخهم: التطميع (الشراء بآيات الله ثمنا قليلا) والتطويع (واسترهبوهم) والنهي عن خشية الناس، والربانية في معناها الحقيقي تعني الناس الذين تحرروا من هذه السلطات المستبدة لأن يمتثلوا آيات ربهم الشرعية بتعلم وتعليم الوحي بما كنتم تعلمون الكتاب) وان يمتثلوا نتائج دراسة آيات ربهم الكونية بدراسة الطبيعة والكون (وبما كنتم تدرسون) وقد جاء كل ذلك مقررا في آية قرآنية عظيمة جمعت أنواع الناس والمجتمع المفترض البعيد عن سلطتي التطميع والتطويع فقال سبحانه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). إذن وصف الربانية يشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر ممن يدرس ويطلب ويتبع حقائق الوحي والكون علما وعملا، وتحصيل الربانية أمر نسبي متفاوت كتفاوت الناس في تحصيل الإيمان، لذا لا يختص وصف الربانية بالعلم بالوحي فقط، كما أنه لا يختص بأفراد يملكون كمية أكثر من المعلومات الشرعية، فهي أمر نسبي ومتفاوت، ولا يعني هذا أن علماء الشريعة أو غيرهم من علماء العلوم الطبيعية أو التشريعية (العلوم الإنسانية) لا يختصون بشيء، نعم لهم اعتبارهم واختصاصهم في تخصصاتهم المحددة، وليس باطلاق او بتخصيص علوم تسمى دينية عن أخرى تسمى دنيوية، لأن علوم الدنيا علوم وسائل ضرورية لعلوم الآخرة، كما أن الفضل الوارد في العلم أو العلماء يخص الآخرة للحث على طلب العلم والاستزادة فيه وليس لبسط نفوذ أو سيطرة لأن الدين قد أكمل وحفظ (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وحفظه الله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، فمهمة العلماء بالذكر والدين هو تربية الناس على الربانية على المصدرين (الوحي والكون) والحث على الاستزادة في تعلمها وفهمهما دون استبداد او استرهاب أو نفوذ، كما أن مهامهم الجواب على من جهل اذا سأل (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ولا يعني ذلك اختصاصا بسلطة أو نفوذ، لكن لكل علم وفن ومجال تشريعي او طبيعي بيئته او شروطه ومن ذلك علوم الوحي التي جمعت كل علوم اللسان والعقل والنقل، فلا يمكن أن نطلق عدم وجود الحجاب (أو ما يسميه البعض الكهنوت) الحائلين عن تعلم آيات الله دون أن يكون من المسلم به ضرورة وجود وسائل وشروط تسدد الفهم وتصوبه من داخل العلم أو الفن أو المجال ومن خارجه، ومما تميز به أهل السنة والجماعة هو ايمانهم بعصمة الوحي والاجماع القائم اساسا على الوحي وايمانهم بأن النبوة قد ختمت بجميع صفاتها ووظائفها المختصة بها، لذا فليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبوة أو شيء من النبوة كالقول بالعصمة أو شيء من العصمة لأحد كائنا من كان من البشر لا لولي موهوب ولا لإمام معصوم ولا لنواب يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! وهذا ما يؤكده أهل السنة أن باب الامامة من السياسة الشرعية المدنية وليس من العقائد الغيبية التي تقوم على النص العيني ومن الغريب ان يقوم من انتسب للسواد الاعظم من المسلمين بالدعوة لتقليد مذاهب قد انحرفت عن حقيقة الرسالة بالدعوة لإيجاد مراجع دينية يديرها افراد باسم الدين تكون لهم الطاعة باسم الله بدلا من دعوة الناس لأن يكونوا يمثلون أنفسهم ويكونون ربانيين يربون انفسهم بالأكثر اهمية مما يرتبط بحياتهم ثم بالأقل ابتداء بالتوحيد والعبادات الذاتية ثم العبادات المتعدية، فهم من يوكل لهم الأمر في حفظ دينهم وشريعتهم ومحاسبة من تسول له نفسه بالاستبداد بأمرهم واغتصاب حقوقهم باحياء المؤسسات العلمية والعملية التي تقوم بكاهل التربية لكافة افراد المجتمع، لتحقق قيم الله التي بثها الله في الوحي والطبيعة، كما ان العالم شرعيا كان او غير شرعي له حقه من الاحترام والتقدير الذي لا يختص به عن سائر الناس لأن المطلوب في الاسلام هو احترام الجميع بالخلق الكريم، وهذا امر مسلم ولا يوجد نص يضيف امتيازات خاصة في التعامل مع علماء الشريعة، فلو كانت لعلماء الشريعة امتيازات دنيوية في التعامل لكان هذا الدين ذا بعد دنيوي، ولكن لما كانت امتيازات من يسلك طلب العلوم الالهية والشرعية بثمارها الحقيقية امتيازات أخروية كان لا يقوى عليها الا الخلص، وهو أمر بين العبد وربه وليس مطلوب من أحد أن يكشف عن قلب أحد أو عن غرضه من طلب العلوم الشرعية او غيرها، والبعد الأخروي للشخص يعود نفعه له ولا يقتضي صوابه او خطأه، بل هو تحت باب الاجتهاد بين الأجر والأجرين، وكما سبق هو غير معصوم فلن يملك علما وحجة نقده ونقاشه، وهذا لا يعني ذمه او احتقاره، فما دام النقد وفي اطار الآداب والأخلاق الانسانية والاسلامية فهو مرحب به بل وظاهرة صحية في المجتمعات الحية. والذم لكائن من كان عالماً كان أو جاهلاً نجد في الشريعة ما يحرمه مطلقا مثل (الغيبة والنميمة والبهتان والتنابز وغيرها من المحرمات التي ترتبط بباب الذم) ما لم يكن شرعيا له ضوابط الشرعية والقضائية حسب أحكامه وأحواله وآثاره هذه هي نظرية القرآن التي افهمها في معالجة المفاهيم التي ترتبط بالحياة والعلم والقيم وهو ما اجتهدت في توضيحه حسب ما أمكن.