وبقدر ما تحاول عمارة الطرز العالمي المعاصرة الإبهار، كذلك تفعل السيارة. فهي سلعة من إنتاج التقنية بامتياز. يتبارى منتجوها العمالقة، في أميركا وأوروبا واليابان وكوريا، المتنافسون على السوق الكونية الواحدة. يتبارى هؤلاء المنتجون بحشوها بكل ما هو جديد من ابتكارات التكنولوجيا المعاصرة. وتصبح السيارة، في زحمة التنافس هذه، وهي "سيدة" وسائط النقل في عصرنا، صيغت خصيصاً لها نظريات "التنظيم المديني القائم على الشبكات" فقامت بفعله الأوتوسترادات العريضة داخل المدن وخارجها، وزنرتها المخارج الدائرية، سبحات متكررة ممتدة بامتدادها. تصبح "السيارة السيدة" هذه، وهي منتج تكنولوجي صاف، عند كل المنتجين المتنافسين، وفي كل مكان على كوكب الأرض الصغير، تصبح "السيارة السيدة" هذه، وهي توحد العالم تكاد، غطاء أملس لماعاً، جلداً ناعماً تخاله، يوحي بالديناميكية، يحكي الخفة وسرعة الإنطلاق، ويقنع ببراءة باهرة، وببساطة مذهلة، أحشاء بالغة التعقيد. ترفع الغطاء، فلا ترى تحته مكاناً يتسلل منه الهواء فقد غص المكان بالشبكات وبالأشرطة، وبالنظم المختلفة لا يمكنك أن تصل الى واحدة منها دون أن تنزع الذي فوقه، إذ هي هناك متراكمة، مزروكة، لا يفك رموزها إلا الحاسوب الذي نظمها. وتنحو العمارة، وسط التنظيم المديني الذي وصفناه قائماً على الشبكات يعم العالم، منحى السيارة، وتصبح مثلها سلعة، الكترونية، تكنولوجية، باهرة بامتياز. غلافها بسيط لماع، هو جلدها، يقنّع أحشاءها، ويخفي تعقيداتها، ويسلم قدر الذين هم داخلها، الى "نظام ادارة المبنى" يتحكم به حاسوب قابع في أحد الأقبية. وكما السيارة واحدة، كذلك عمارة الطرز العالمي المعاصرة هي واحدة أيضاً. هي واحدة لا تأبه بالبيئة، الطبيعية أو المبنية، لا تكترث بالموقع، ولا تعطي المكان أي وزن أو أي تأثير. هي واحدة عند الشاطىء وفي الجبال، واحدة في الصحراء المحرقة وفي الأصقاع المجلدة، تحارب البرد القارس بالعوازل، وبالهواء الساخن، يُنفخ في مجار، وتحارب الحرارة المحرقة بالعوازل، وبالهواء البارد، ينفخ في مجار، هو الآخر. لا تأبه بالأمطار، ولا تكترث بأشعة الشمس، سيان عندها، العواصف الثلجية أو العواصف الرملية. تتدلى سلال التنظيف المتحركة آلياً أمام غلافها الزجاجي على مدار السنة، تزيل آثار الثلوج هنا، وتكنس الغبار، والأوساخ، والرمال، هناك. وهي واحدة مهما كان نوع الانتفاع بها، للسكن، للسياحة، للتعليم، للمكاتب، للاستشفاء، للرياضة، للمطارات، لكل المتغيرات في دنيا الوظيفة والانتفاع. وهي واحدة بوحدة المواد تصنع كسوتها، تكوّن غلافها، وغلافها يختصرها نكرر، مرة أخرى. كل المواد المستعملة في هذا الغلاف هي من انتاج الصناعة، ومن انتاج التقنيات المتقدمة، وإذا وجدت بعض المواد الطبيعية فهي للزينة فقط. ربما اختلفت احياناً الكتل المبنية باختلاف شكل العقار أو بتغير طوبوغرافيته، إلا أن ما يميزها أساساً هو كونها من صنع بائع السلعة ومروّجها. وبائع الزجاج في هذا المجال مصمم مبدع بامتياز، يركّب قطعها الظاهرة، قطعة قطعة، كما يركّب الطفل لعبته، أو كما يركّب المسرحي ديكور مسرحياته. كل ما فيها مشهدي استعراضي. لا دور للمعماري المصمم فيها إلا دور المزين مع عارضة الأزياء يُجملها بنافذة، يُكحلها بصفين من الغرانيت الأسود، أو من الحجر الأبيض، يشير الى بوابتها بالخشب، كما يشير الطلاء الأحمر الى الشفاه، يتلذذ بالنظر الى الخدع يستنبطها ليخفي عيوبها. "العمارة الحديثة"، عمارة الطرز العالمي المعاصرة، مزيفة، وكل إيحاءاتها كاذبة. وحده، إيحاؤها بأنها مركبة، مجمعة، من دون كبير عناء من قطع مرقمة يحدد موقعها على الخطوط الأفقية الحاملة هو إيحاء جريء وصادق. غريب هذا الشعور الذي ينتابك وأنت أمامها، يدفعك بقوة، كي تبدأ بتفكيكها فوراً، وبأي وسيلة تتوافر لديك، لتنقلها، ثم تعيد تركيبها في مكان آخر ربما جاءت فيه على شيء من التناغم مع محيطها. غريب كم تبدو نافرة في مكان وجودها، كم تبدو مفتعلة، مرمية هناك من دون جذور. العمارة الكونية، عمارة كل الأمكنة، هي "كالغانية" لا مكان خاصاً بها وان حاولت الانتماء، انها لكل الأمكنة. انها "اللاعمارة" إذا صح التعبير. فالعمارة منذ أن وجدت هي وليدة المكان، والمكان من صنع الزمان. حمى البنيان، أو النفي المزدوج للعمارة وللهوية لا أرى إذاً، في التكنولوجيا المتقدمة، تصمم "عمارة" اليوم وتصنعها، في كل مكان، تحدياً للهوية المعمارية فقط، بل أرى فيها نفياً مزدوجاً: * نفياً للعمارة في دلالاتها الإنسانية. * ونفياً للعمارة في انتمائها في المكان وفي الزمان، أي نفياً لهويتها. "فعمارة" اليوم، عمارة التقنيات المعاصرة، هي عدائية في اطلالتها أحياناً، غير مضيافة، غير مرحبة غالباً، لا تدعوك الى العيش بداخلها بدفء وراحة، ولا تحمل اليك الشعور بالإطمئنان، بل ربما أثارت فيك الخوف والإرتباك، بكل الغموض الذي تغلّفه شفافيتها المفتعلة. إنها، بإصرارها على الإيحاء بالوجود العابر في المكان، لا توحي بالاستقرار مطلقاً. وأرى مفارقة كبرى، في هذا الإصرار على إنتاج عمارة لا توحي بالاستقرار، في زمن الإضطراب الشامل زمننا، والناس هم، في مثل هذه الظروف، بأمس الحاجة الى كل ما يشعرهم بالاستقرار وبالاطمئنان. وللحيز المبني حولهم دور كبير في ذلك. فالبيت، في عمارة اليوم، وهو مأوانا، وملجأنا وملاذنا. البيت وهو المكان الذي "يسترنا" كما يقال عندنا، يحمينا من عيون الآخرين، من فضولهم وربما من تعدياتهم. ان البيت المنزل، يبدو عارياً في عمارة اليوم، لا شيء فيه يستر أو يحمي أو يضفي شعوراً بالدفء والحميمية. ومنذ أن خرجت العمارة من نطاق سيطرة الحرفي الفنان، يتصورها جميلة ويصنعها بيديه، فتنتصب جميلة بالفعل، منذ أن خرجت العمارة من هذا النطاق، ودخلت حيز التقنيات المتعددة، والوظائف المتشابكة، منذ الحداثة ربما، والعمارة كما أشرنا تقف في هذا التقاطع الخصب، بين الفن البحت بقيمته الجمالية بكل دلالاتها من جهة، وبين ضرورة الانتفاع بما يبنى، بكل تعدد أوجه هذا الانتفاع وبكل تعقيداته من جهة أخرى، بما يضيف الى القيمة الجمالية، قيماً أخرى منحازة بقوة الى ما يرقى بحياة الناس ويغنيها. فللتقنيات الحديثة إذاً والتي نسيطر عليها بسهولة، دور هام في تحسين مستوى حياة الناس، وان اقتصر ذلك على تحسين ظروف حياة البعض، من دون أن يطال حياة الجميع، في الوطن الواحد، أو على سطح الكوكب. وتبقى هذه التقنيات، رغم ضيق رقعة المستفيدين منها، على المستوى الكوني خاصة، مُنتجاً علمياً لخير البشرية جمعاء، تشكل نوعاً من التحدي، يعمل الجميع للوصول اليه وان اكتفى معظمهم بالحلم به. ولكن هل يندرج دائماً دور التكنولوجيا المتقدمة في العمارة، في حدود حاجاتنا الحقيقية، وفي حدود سيطرتنا الفعلية عليها، فتقدم لنا دائماً المفيد والمريح، أم تراها قد أصبحت تسيطر علينا غالباً، تسلبنا انسانيتنا، وتحول كل ما تتداوله يدانا، سلعة باذخة معقدة، سريعة العطب، تُستهلك بسرعة، تُستبدل بما يعود بالربح السريع الى صانعها وبائعها، الى الرأسمال المتوحش، المنتعش المسيطر؟ تخرج من عملك وسط المدن المتشابهة، المبقورة البطن بالأوتوسترادات العريضة، تتبع الإشارات بدقة كي تدلك على أحد المخارج الدائرية، يعج بها المكان، تدلك على طريق الشارع، حيث تصطف المباني كالجنود في تأهب، وفي أحدها منزلك، بيتك. تصل مقابل المبنى، فتزيح حزام السلامة زنر جسدك مدة الطريق القصيرة، وتسكت الأسطوانة المصغرة المثبتة فوق قاعدة تمتص الارتجاجات، داخل صندوق سيارتك، كانت تبث في أرجائها المكيفة ألحاناً صاخبة لمادونا. تخرج من السيارة، وتُخرج من جيبك سبحة طويلة من وسائط التحكم عن بعد، واحدة لباب المرآب، وثانية للسيارة تقفلها وتشغل فيها جهاز الإنذار، وثالثة لبوابة المبنى. وعند باب منزلك، تُخرج من جيب قميصك بطاقة ممغنطة، تٌدخلها في قفل الباب، تفتحه، ثم تعلقها في جيب خاص بجانب الباب، فيمتلىء البيت نوراً وتصدح الموسيقى الصاخبة ذاتها. تستريح قليلاً، ثم تخرج سبحة ثانية من وسائط التحكم عن بعد، معدة للمنزل هذه المرة، فتزيح بواحدة الستارة الثقيلة عن الجدار الزجاجي الكبير الذي التهمته الشمس من الصباح حتى عودتك، وتجمع بثانية، كاسرات الشمس، وكلها مثبتة من الداخل أمام الزجاج. وتشغل حمامك الذكي بثالثة، بحيث يمتلىء المغطس بالمياه الساخنة المعطرة خلال دقائق، وبرابعة، تجعل مطبخك الأكثر ذكاء يعد لك القهوة الأميركية خالية من أي مذاق، يأخذك لونها الأسود الصافي. تجلس بعد ذلك على كرسي هزاز، أمام بضعة وسائط للتحكم عن بعد، مرصوفة على الطاولة أمامك، كلها سوداء، لا أدري كيف تميز الواحدة عن الأخرى. تشغل التلفاز العملاق بواحدة، فتنعكس أمامك صورة فيلم إباحي هو بث مباشر على شبكات "الوب" لم تتعرف بعد على أبطاله. تثبت على الشاشة صورة أعجبتك. تغير الحيز أمامك، متحكماً، وعن بعد دائماً، بالجدار الثقيل، حامل كتبك والهموم، تزيحه، فتظهر خلفه غرفة نوم فسيحة، في وسطها سرير أحمر، وفراش شفاف مليء بالمياه الراقصة. تزيح الجدار، تغير المدى، تنير السقف المنخفض، وفيه أنوار صغيرة متلألئة، تذكرك بسماء زرقاء داكنة، وقد عزت عليك رؤيتها، في المدينة الملبدة بالدخان وبالغيوم. تثبت صورة أبهرتك في وسط الجدار. وتجعل الموسيقى تصدح مالئة المكان. الباب ذكي، والحمام ذكي، والمطبخ ذكي، والبرنامج الذي أعد، يربط كل ذلك بجهاز ينظمه ويديره، هو ذكي أيضاً، ويقوم بأدوار كان على عقلك الإنساني العادي أن يقوم بها، يأمر يديك، ورجليك، وأصابعك وعضلاتك، يحركها كلها، ويسيطر عليها. إن هذا الجهاز، وهو قابع خلف المرايا الملساء في بنيان "الطرز العالمي المعاصر"، أصبح نصفك الآخر، وأصبحت، وأنت تزهو في قمة الرقي، انساناً آلياً خارقاً، أو تتصور أن تكون كذلك، فتبدو سعيداً مزهواً في طريقك الى هذه الصيرورة، الى خسارتك انسانيتك، الى خسارتك فرادتك. إذ أن الجهاز الذي أدار منزلك، يدير نظيره منزل جارك، وهناك برنامج أكثر ذكاء يدير الشارع بكامله، وآخر قد استحدث ليدير المدينة، بأوتوستراداتها العريضة المستحدثة، وبحمى البنيان العصري فيها. ينظم هذه الحمى تتابع الإشارات المرسومة باتقان لافت، وإيقاع اللوحات الإعلانية الملونة بالأحرف الغليظة، وواجهات العرض الزجاجية تراها من نافذة السيارة فقط، إذ لا مكان للتنزه أمامها. فالمدينة هذه ببنيانها وطرقاتها، لم تصنع للناس يسيرون على أرجلهم فوق أرصفتها، بل صنعت ليرونها من نوافذ سياراتهم المبرمجة، وفق البرنامج العام الذي يسير المدينة. من هذا المنظار تتشابه أقسام مهمة من مدن اليوم المعاصرة، وتتشابه حمى البنيان فيها، وتتوحد الشرائح الاجتماعية التي تعيش في هذا النمط المكوكب. تتوحد، في كونها كائنات نصف آلية، ينحصر كل طموحها في أن ترقى دائماً الى موقع، يعزز الآلي المتفوق، على كل ما هو إنساني فيها. إنها تتوحد، بهذا التوق المجنون، الى نزع الصفة الإنسانية عنها، وإن جزئياً. والبنيان المتكرر المتشابه، تنظر اليه من نافذة السيارة المسرعة، على الأوتوسترادات العريضة، تراه متنقلاً مثلها. ثم إذ ترى توأمه في المدن الأخرى، تخاله قد تبعك في تجوالك. إن حمى البنيان هذه، الخالية من أي ارتباط بالمكان، هي كالسيارة تماماً، "اللامكان" الثاني، فالسيارة هي "اللامكان" الأول بامتياز. انها، "اللاعمارة" مكرراً، إذ لا أرى ممكناً أن ننقل فعلاً معمارياً حقيقياً، من مكانه الى مكان آخر، وهو في موقعه، يساهم في صنع المكان، فلا ينقل منه. والبينان "اللامكان"، المتنقل كالسيارة، هو النفي المزدوج، للعمارة، وللهوية. * معماري لبناني.