في استطلاع للرأي نشره موقع معهد البحوث الدينية public Religion Research Institute يفيد بأن الكثير من الأمريكيين يرون أن الرأسمالية واقتصاد السوق الحر يتناقضان مع المبادئ المسيحية. حيث يتفق مع هذا الرأي 44% ويعارضه 36% ممن تم استبيان رأيهم. وأنا هنا لن أسترسل في استعراض كافة التفاصيل والإحصاءات التي وردت بهذا الخصوص على الموقع المشار إليه. فمن تهمه متابعة ذلك يمكنه الرجوع إلى موقع المعهد على الشبكة العنكبوتية. فالأهم، على ما يبدو لي، هو محاولة فهم الأسباب التي تدفع هذه النسبة الكبيرة من الأمريكيين للاعتقاد بتناقض الدين المسيحي مع الرأسمالية. وأنا أحب أن أؤكد هنا على كلمة الأمريكيين. وذلك لأن هذه الإحصائيات لو جاءت في بلد مسيحي فقير في وسط أمريكا اللاتينية أو أفريقيا لكان من الممكن فهم الدوافع. أما أن يأتي ذلك من قلب الرأسمالية وقلب الثراء والغناء في العالم فهذا هو المستغرب. أو ما يبدو أنه مثير للاستغراب. فلنحاول سوية تحليل الأسباب التي تدفع بالمسيحيين في أكبر اقتصاد في العالم الرأسمالي إلى الاعتقاد بان الرأسمالية والمسيحية متناقضتان. وبما أنه لا يوجد في عالم اليوم اقتصاد آخر غير اقتصاد السوق الحر فإن ردود الأمريكيين تعني أولاً أن أكبر اقتصاد في العالم قد أصبح يتنافى مع المبادئ المسيحية التي تعتبر أمريكا نفسها أهم المدافعين عنها. أو على الأقل هذا ما يعتقد به مسيحيو الولاياتالمتحدة. وعلى ما يبدو لي فإن معهد البحوث الدينية الأمريكي لو أجرى استطلاعه خارج الولاياتالمتحدة لما حصل على نتيجة مغايرة. ولقد ذكرت في مقال سابق أن منطقة الشرق الأوسط هي مهد كافة الأديان والرسالات السماوية. وأن أبسط تعاليم هذه الديانات هو العدل والإنصاف. ولذلك فإن نتيجة الاستطلاع لو أجريت في بريطانيا أو ماليزيا فإن الناس سوف ترد مثلما رد الأمريكيون. فهل يعني ذلك أن الرأسمالية فشلت. أعتقد لا. فالصين رغم ما يقال عنها إنها بلد شيوعي فهي في واقع الأمر تطبق رأسمالية الدولة. إذاً فربما ردود الأمريكيين تعني فشل نموذج معين من الرأسمالية. بالفعل فالرأسمالية التي بدأت تطبق في الولاياتالمتحدة من عهد الرئيس الراحل ريغان وحتى دبليو بوش كانت رأسمالية قليلة الضوابط. أو بمعنى آخر كانت رأسمالية يكاد يغيب فيها دور الدولة. وهذا النموذج وصل إلى نهايته المنطقية عام 2008 بعد أزمة الرهن العقاري. إذا فلعل هذا النوع من الرأسمالية هو الذي يقصده الأمريكيون بالتحديد. فالولاياتالمتحدة تعاني اليوم من أزمة لم تشهد مثلها حتى في الثلاثينيات من القرن المنصرم. ولذلك فإن أمريكا إذا لم تتمكن من تجديد نفسها والخروج من أزمتها فإن استطلاعات الرأي المقبلة قد تأتي بنتائج أسوأ من النتائج التي أتت في هذا الاستطلاع الذي نناقشه وإياكم. ولكن السؤال المهم هنا هل باستطاعة الولاياتالمتحدة أن تخرج من أزمتها الاقتصادية دونما تغيير للنموذج الاقتصادي الذي تسير عليه والذي بفضله. تحولت من بلد منتج إلى بلد مستهلك ومن دائنة إلى مديونة؟ فإذا كان الجواب بنعم فإن ذلك معناه أن نتائج الاستبيان قد أصابت عين الحقيقة. أما إذا كان الجواب بلا فإن من تم استبيانهم قد اختلطت عليهم الحقيقة ولم يستطعوا التفريق بين الرأسمالية ككل وبين نموذج من نماذجها. فالرأسمالية اليوم هي رأسماليتين وحتى ثلاث. فهناك رأسمالية الدول الصناعية القديمة التي تطبق في الولاياتالمتحدة وأوروبا- وهي رأسمالية قليلة الضوابط. ولكن هناك رأسمالية الصين التي يتوقع لها بعد خمس سنوات أن تسبق الولاياتالمتحدة. هذا بالإضافة إلى رأسمالية البلدان النامية التي هي خليط بين النموذجين.