كان رئيس وزراء بريطانيا توني بلير يقضي عطلته الصيفية في فرنسا عندما اتصل به الرئيس بيل كلينتون ليخبره عن الهجوم الأميركي المزمع على أفغانستان والسودان. لم يوفر ذلك لرئىس الحكومة البريطاني مهلة كافية لدراسة الخطوة، وكان عليه ان يثق بما قاله الرئيس كليتنون عن "الأدلة"، وبدا انه لم يستشر وزير الخارجية روبن كوك قبل الاعلان عن المساندة البريطانية القوية للخطوة. اعتقد ان كل من رؤساء اميركا منذ 1945 كان سيوجه ضربة الى "الارهاب" عندما يجد نفسه في ظروف مشابهة، كما ان كل رئيس حكومة بريطاني منذ 1945 كانت سيؤيدها فورا. يكفي للبرهنة على ذلك ان نتذكر الدعم الفوري، والخاطىء، الذي قدمته رئيسة الوزراء الأسبق مرغريت ثاتشر لهجوم الرئيس الأسبق رونالد ريغان على ليبيا، وايضاً اثر اسقاط طائرة الركاب الايرانية في الخليج. ذلك ان الفئات السياسية الحاكمة في بريطانيا تضع العلاقة الأميركية البريطانية على صدر قائمة اولوياتها. ويبذل توني بلير كل جهده للتقرب من كلينتون، وحرص على اظهار التأييد له خصوصا في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الرئيس. وحصل بلير نتيجة لذلك على تدخل فاعل من قبل كلينتون في عملية السلام في ارلندا الشمالية. ما اثار استغرابي اخيراً بقاء روبن كوك في منصبه في وزارة الخارجية بعد التعديل الوزاري الذي اجري هذا الصيف، واعتقد انه سيبقى في المنصب عددا من السنوات، ما لم يواجه كارثة رئيسية. لكنه فقد ثقة مرؤوسيه ويبدو بوضوح متزايد ان علاقته مع بلير ليست على ما يرام. وكان واحد من نواب حزب العمال الجدد جذب انتباهي الى صمت وزارة الخارجية البريطانية طيلة يومين بعد الخطوة الأميركية. يعتبر كبار مسؤولي الخارجية في أحاديثهم الخاصة أن الأميركيين اخطأوا في قصف مصنع الأدوية السوداني، وان معلوماتهم عنه كانت مضللة. وقال واحد من الوزراء لروبرت برستون، المحرر السياسي لصحيفة "فاينانشال تايمز": "شعر كثيرون منا بالغضب عندما سارع بلير الى تأييد كلينتون". كما وصف مسؤول كبير للصحافي نفسه موقف بلير بأنه "تلقائي وسقيم". اذا كان ما يقلق "المستعربين" في وزارة الخارجية عموماً التراجع المستمر في مكانة بريطانيا في العالم العربي، فان المختصين منهم في شؤون السودان ينظرون الى الهجوم على مصنع الأدوية في الخرطوم بانزعاج خاص. فقد كانت بريطانيا مسؤولة سياسياً عن السودان خلال القسم الأكبر من هذا القرن، وما تجهله الصحافة والرأي العام هو ان للندن سياسة تجاهه تختلف عن سياسة الأميركيين. وتدعو الحكومة الأميركية علنا، بفعل نفوذ اليمينيين في الكونغرس والأصوليين المسحييين، الى اسقاط حكومة الخرطوم، وفرضت العقوبات على السودان. وتقدم أميركا مساعدات عسكرية غير قتالية الى دول مجاورة للسودان مثل اوغندا، التي تتدخل عسكرياً في مناطقه الجنوبية. ومكنت المساعدات الخارجية "الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان" من السيطرة على عدد من مدن الجنوب. ليست لبريطانيا اوهام تجاه النظام الحالي الذي يقوده الاسلاميون، لكنها احتفظت لنفسها بدور خاص مهم في محاولة جمع اطراف النزاع. وتمكن وزير الدولة البريطاني لشؤون الخارجية ديريك فاتشيت اخيراً من البرهنة على صحة هذا الموقف من خلال مساهمته في تثبيت وقف النار في الجنوب قبل اسابيع. كما تشارك بريطانيا بكثافة في جهود الأممالمتحدة لإغاثة مناطق الجنوب حيث تتفاقم المجاعة وتتصاعد الفيضانات. وكنت زرت السفير البريطاني في الخرطوم آلان غولتي في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وشهدت المساعي المبذولة وقتها خلف الكواليس لاقناع الطرفين بفتح المجال امام طائرات الاغاثة. وكما هو مألوف في مثل هذه الحالات فإن كلاً من الطرفين يحاول الاستفادة ما امكن من وقف النار، كما يستولي المحاربون على قسم كبير من المعونات الغذائية. مع ذلك فإن جهود الاغاثة تنقذ حياة الوف لا تحصى من السكان. لم يكن من المستغرب، بعد تأييد بلير للخطوة الأميركية، ان تريد الخرطوم سحب سفيرها في لندن، الديبلوماسي الدمث والقدير عمر يوسف بريدو، وتطلب من السفير البريطاني غولتي ونائبه مغادرة السودان. وحاول وزير الخارجية كوك احتواء الأزمة وابقاء السفيرين مكانهما. لكن بريطانيا اضطرت الى سحب كل ديبلوماسييها من الخرطوم بعد التظاهرات المعادية التي هاجمت السفارة. من هنا ستكون نيروبي المركز الوحيد لدعم جهود الاغاثة. من جهتي اتطلع الى عودة سريعة للعلاقات الديبلوماسية الكاملة بين المملكة المتحدة والسودان، لأن هذا يصب في مصلحة البلدين في وقت الحرب والمجاعة هذا. * سياسي بريطاني، نائب سابق من المحافظين.