أتكون الهندسة رؤيوية لتتصوّر وتصمّم العمارة الجديدة للعالم العربي، وكيف السبيل الى مواكبة العصر واستباق تطوراته لاستقطاب الأعمال ورؤوس المال الى بيروت، بعدما أُبعدت هذه خلال سنوات الحرب. ولكن هل تظل الوظائف والأدوار على حالها بعدما غابت بيروت سنوات طويلة وحلّت محلها عواصم أخرى ومفاهيم جديدة للعالم وأساليب مختلفة للعمل؟ كيف نؤسس في الحاضر لتاريخ انطلاقاً من الماضي، دون أن نغرق في الذاكرة، بل نغرف منها لنؤسس تحوّلاً متجدّداً؟ أسئلة كثيرة حملناها الى المهندس المعماري مارون دكاش الذي اختصّ بمفاهيم وتجارب تتعلق بالتحويل والعدوى والتنضيد والتقليد وخصوصاً مفهوم - ما بعد الذاكرة - وعلاقة الماضي بالحاضر في فن العمارة. المهندس دكاش نال شهادة الدكتوراه في التأليف المعماري من روما، وهو الآن يدرّس في جامعات لبنان ويشرف على المجلة الهندسية التي تصدر عن جامعة الروح القدس - الكسليك. كيف السبيل الى وصل الماضي بالحاضر في العمارة، وهل يمكن استعمال المواد ذاتها لنصل الى هذا الوصل؟ - في كل تقليد تزوير للعمل الفني، وغالباً ما يكون التزوير مفضوحاً وغير مرغوب فيه. علينا بدراسة واقع العمارة الحاضرة، لنستفيد من الثقافات التي تراكمت فيها، ان نصنّفها وندرس جيومورفولوجية المنطقة لنستفيد من تفاعل العناصر المكوّنة لها. بذلك نستطيع اتّباع النموذج المدروس أوّلاً، وذلك تبعاً لأهميّة هذا النموذج. في القرن الثامن عشر لم تكن الهندسة احتفاليّة في لبنان. إذ كانت غالبية المنازل فقيرة. لا يمكن أن نكرر هذه البيوت في الحاضر لأنّ في كل تكرار تغييراً وعلى التغيير أن يكون بارزاً حتى يظهر كأسلوب، وأن يكون مستتراً بما يكفي حتى لا يلغي ما حوله. وذلك حتى يتفاعل البناء مع البيئة والأشخاص الذين ينظرون اليه، وإلاّ يحلّ التفكك محل الترابط، ونقع في نوستالجيا عقيمة. أيقع كل تقليد في النوستالجيا؟ - نعم، لأنّنا بالتقليد نحاول إحياء ذاكرة تحوّرت. لماذا العودة الى الماضي، لماذا لا يتركونه يعبر ويُعبِّر عن مرحلة هندسية محدّدة. إذا أضفنا أسلوباً جديداً كلياً على القديم، فكيف نؤمّن التكامل مع المحيط؟ - من خلال الدراسة الدقيقة للمنطقة بأكملها. ويكون التكامل عادةً بالعناصر المكونة لهندسة ما وبتحويل هذه العناصر. فالتكامل لا يكمن في المواد وتقليد العناصر المعمارية، بل في الدراسة المعمَّقة لهيكلية المدنية. لكل هيكلية هوية ولكل هوية صورة جديدة. فلا وجود لصورة واحدة أو استمرارية مطلقة في الهندسة. هذه الهيكلية، هل هي فنّ حيّ؟ - أجل! كانت الهياكل تتكلم كما قال بول فاليري في حواره أوبالينوس أو المعماري، وقد فسَّر أوبالينوس ذلك لفيدر: "اسمعني يا فيدر، هذا الهيكل الصغير الذي بنيته لهرمس، على بعد خطوات، لو تعلم ما هو بالنسبة إليّ! حيث لا يرى المارّ سوى معبد أنيق: أربعة أعمدة وأسلوب بسيط - وضعت ذكرى يوم مضيء من عمري. ما ألطف التحوّل! هذا المعبد الرقيق، لا أحد يعرف ذلك، هو الصورة الحسابيّة لفتاة من كورنتية، أحببتها بفرح. فهو ينقل مقاساتها الخاصة. هو حيّ بالنسبة إليّ ويردّ لي ما أعطيته...". إنّ الهندسة المتكلمة تجذب الإنسان. أي تناسق النسب التي تكوَّن الكل والهيكلية التي تتكوّن من وحدة النسب يحددان الغاية. الجمال غير موجود في عصرنا الحديث. هل ألغيت جماليّة مشروع ما؟ - لا، الجمال موجود ولكن كما قال غوته: هو الكمال في الإنسان وفي الإنسان الذي يجمع جمال الجنسين معاً. كالروتوندا التي بناها بالاديو، فهي الجمال المطلق في الهندسة الذي يؤوي الإنسان المثالي. في الماضي، كان الجمال يعني الكمال بالنسبة الى الهندسة. ولكن مع الفلاسفة المعاصرين أصبح الجمال ذاتياً. ونرى ذلك من خلال القصيدة التي كانت متكاملة في القرن السابع عشر وأصبحت متشظية في القرن العشرين. في هذه الحال، ماذا أصبح دور الهندسة في هذا القرن؟ - في الثلاثينات، ظهرت البنائية التي كانت تبحث عن طريقة للتحرر من العصر الكلاسيكي والدخول في العصر الحديث. لأن الحرب العالمية الأولى غيَّرت هيكلية المجتمع وولّدت حاجات جديدة. وفي محاولة لتحسين وضع العمال، جُهِّزت الوحدات السكنية التي كانت تؤمِّن للعامل كل ما يحتاجه في مساحة صغيرة نسبياً. حاول المهندسون والفنانون الغاء الكلاسيكية لأنها تتوجه الى النخبة فقط. ولذلك حاول المنتمون الى "الباوهاوس" تصميم أدوات للاستعمال اليوميّ، لها قيمة العمل الفني، وترويجها على نطاق واسع، أي تصنيعها ووضعها في متناول كلّ الناس. وهنا برز الفرق بين الأداة الفنيّة والعمل الفني، وأعطيت القيمة للأداة. ما كان انعكاس هذا الاتجاه على الهندسة؟ - وُلدت مجمّعات لوكوربوزييه الشعبية بتكرارها لنمط واحد في البناء وقد رُفض هذا التكرار لأن كل إنسان يبحث عن الاختلاف وإلا فقد هويّته. وهنا كانت نقطة ضعف لوكوربوزييه. أيمكن أن نجد التناغم في التنوّع؟ - يأتي التناغم من البنية والمخطّط العامّ لمدينة أو منطقة. والمهندس غروبيوس جرّب ذلك فوضع المخطّط العام لمدينة شتوتغرت وطلب من عدة مهندسين تصميم الأبنية. أمّا التناغم المتولد من البنية فيعود الى دراسة مورفولوجية المنطقة. بساحاتها الخضراء والأبنية أي العلاقة بين المساحات الفارغة والمساحات الملأى. أو المساحات الجماعيّة والمساحات الخاصّة. كيف نحدّد العلاقة بين المساحة الفارغة والمساحة الملأى؟ - لا يوجد تحديد لذلك، لأن العلاقة تنشأ من خلال الفراغ. وبالرجوع الى التاريخ تمنحنا الهندسة نوعين من الساحات: الساحة الإغريقية والساحة الرومانية. للساحة الرومانية أربع واجهات تحدِّدها، أمّا في الساحة الإغريقية فتكون العناصر والأبنية حرّة في المدى والعلاقات بينها تحدث في الفراغ أو من خلاله. حتّى الحركة تحدث من خلال الفراغ لأن له قيمة البناء ذاتها. هنالك حرية في الحركة وهذه هي الديموقراطية، التي كانت موجودة في السياسة والبناء معاً. فلكلّ بناء سماته، شكله وصورته المختلفة، ولكلّ مكان سماته المختلفة. يكمن التناغم في حريّة المدى. وفي العصر الحديث - الديموقواطي - يصبح لكلّ عنصر قيمة، ولكل عنصر هوية ليعطيا صورة. يقال إن التناغم في الاستمرارية. ولكنه يكمن أيضاً في عدم الاستمرارية والتنوع. ومدينة جبيل مثال لذلك. ففيها حصن من القرون الوسطى، وهي بنية دفاعية اعتمدها الصليبيون في حوض البحر المتوسط، أما الخان الموجود في مدخل السوق فبنيته تجارية تميز المدينة الإسلامية والجامع هو مكان للقاء في بنية المدينة الإسلامية. أما كاتدرائية مار يوحنا فهي بنية نجدها في مدن القرون الوسطى. ثم نجد المنازل اللبنانية القديمة والمنازل الحديثة. هذه الفوضى تعطي قيمة مُدنية خالية من التماثل. إذا قمنا بقراءة معمّقة لكل بنية نستطيع التطور. وعندها تصبح مدينة جبيل نصاً يدفعنا الى التفكير في نظام يساعدنا على إيجاد هندسة جديدة لمدننا. ما هو الفرق بين بيروت وجبيل؟ - هناك تنضيد عمودي في بيروت، أما في جبيل فالتنضيد منوّع، أفقيّ وعمودي. والمرجعيّة ضرورية لأنه لا حاضر بل ماضٍ. كان الفكر الهندسي في الماضي يحدِّد معالم المدينة. الروماني تصرف كمحتل وفاتح ونظم البلدان والمدن وجعل منها محطّات للجنود تعكس عظمة روما. مع رواج الرحلات البحرية، خصوصاً في القرون الوسطى، أصبحت مدينة تحمل وتحول ساكنها، لأنها مستقلّة عن المكان والزمان الذي تحط فيه. فالباخرة نوستالجيا مدينة. وسرعة الحياة اليومية والحركة تدفعنا الى النوستالجيا لأن التكنولوجيا تتخطانا ولا نستطيع اللحاق بها. لذا نبحث عن الأمان في الذاكرة والذاكرة تشدّ الى الماضي وتحول بيننا وبين إمكانيات ما بعد الذاكرة التي تدفع الى الاستفادة من الذاكرة للذهاب الى أبعد. لذا علينا التعامل مع الذاكرة بوضوح، أي أن نقرأها لنطوِّرها لا أن نعيشها بأحلامها، وإلاّ ماتت. على الوقت أن يكون مطلقاً في الهندسة. أدرس الانفعالات لأجعل منها عناصر إيجابية في فكري، كالمدفن الذي يحوّله مالارميه رماداً في كتابه "إيجيتور". أي أنه اعتمد التحوير كي لا يرفض التطوّر ويتعلق بالنوستالجيا فقط. أي لغة هندسية تتكلم بيروت الآن؟ - إذا تكلمنا على اعادة الإعمار بعد الحرب، أرى أنها ضرورية. أما بنية المدينة التحتية فهناك أخطاء كبيرة فيها. ربما لم يبحث الإنسان عن بيروت ما قبل الحرب، ولكن بيروت تستقبل وتودّع كل يوم نحو المليوني شخص وعلى البنى التحتية أن تؤمِّن سهولة هذه الحركة. كان على الذين وضعوا مخطط اعمار المدينة أن يكونوا أكثر هجومية أي أن تكون اعادة الإعمار واضحة وجلية، وأن يدعمها فكر متطوِّر لتحديد هوية معاصرة للمدينة. أي أن يُؤخذ بعين الاعتبار التاريخ دون النوستالجيا التي ترافق صورة المدينة. لأننا نطلب من بيروت أن تكون مركز الأعمال والفكر والحال والاستثمارات، وأن تُقيم علاقة بين الشرق والغرب. لذا على صورة الهندسة أن تتغير وتصبح مغايرة لما كانت عليه. فترميم شارعي ويغان واللنبي يعكس صورة الانتداب الفرنسي ونحن بهذا النوع من الترميم نثبت الانتداب. لذا كان يجب القيام بقراءة أثرية للمدينة لنجد العناصر الثابتة. والمتراكبة بين القرون الوسطى والحقبة الرومانية والحقبة العثمانية من أجل توسيع البنى وتحويلها مع المحافظة على عناصر ثابتة تصبح رمز المدينة في ما بعد. إن العمل الذي يجري الآن اعتمد التقسيم المناطقي الذي وضع عام 1950. كان يمكن طرح فكر جديد على مركز بيروت لتصبح محوراً للفكر الهندسي، كمدينة برلين، وذلك بتخطّي هذا التقسيم والعودة الى التاريخ للتعامل مع عناصره المكوّنة. لوضع مخطّط عام مختلف عنه. هل تكمن المشكلة في ترميم الأسواق؟ - لا! بل في اعادة تحديد وسط بيروت. أي المخطّط العام. الأسواق تفصيل، يُعاد ترميمها كما هي وذلك للعودة الى الذاكرة النوستالجية التي توقف التطوّر في المجتمع. تهدّمت الأسواق العثمانية وهي جزء من تاريخ بيروت ولن يُعاد ترميمها ولكن لا بدّ من التساؤل: ما هي مقاييس الإلغاء؟ على أي أساس نلغي حقبة؟ كانت باريس عاصمة أوروبا وأراد ميتران أن يعطيها صورة جديدة لتظل عاصمة أوروبا فتدخّل معمارياً في كل أجزائها. طرح فكراً جديداً في قلب المدينة، لم يخف من التجديد وهنا يكمن تحدّي الهندسة. أصبحت باريس تجمع كلّ الحقبات. لقد تغيرت كلّ سبل الاتصالات الآن ودخلت عناصر جديدة كالخليوي والانترنت... ولم نعد نستطيع تصوّر العلاقة بين الزمن والمكان والإنسان. الاتصالات غيِّرت مقاييس المكان. كانت المراكز الرئيسيّة للشركات في حاجة لأن تكون في العاصمة، لتتمثل فيها، ولكن الشركات ستخرج من وسط المدينة لتتمركز في الضواحي. وسيكون للمدينة مفهوم جديد متخفٍّ، ستبقى الأسواق والعلاقات الإنسانية فقط في المدينة. لأن الحاجة الى مكوّناتها كالمصارف والبريد والمكاتب لم تعد ماسة، وستختفي شيئاً فشيئاً مع كل التطورات. ما هي العناصر الجديدة التي ستكوّن المدينة المعاصرة؟ كان يمكن لبيروت أن تكون ثورة في العالم الهندسي وأن تكون مدينة للغد والمستقبل. وان رغبنا في ذلك علينا بإعادة النظر في مخططها التنظيمي، لا أن نكتفي بالبنية الموجودة لأنها تشعرنا بالأمان. لذا علينا البدء بالبحث والتفكير والتنظير لإيجاد المكوّنات الجديدة للمدينة، مكوّنات ما بعد الذاكرة. وهنا يدخل دور الجامعات في الأبحاث. كانت بيروت مدينة الأعمال ولكن علينا أن نجد لها وظيفة جديدة غير موجودة في باقي الدول العربية كي تعود هي المركز. ومن هنا ضرورة الفكر الهندسيّ الذي يعتمد التحويل المتجدّد ليصبح الفكر مرجعاً للعمل.