يوم باشرت تحصيلي العلمي في 1960، كان التعليم يحمل بصمة المعمار الكبير لوكوربوزيه. وعليه كانت الآلة الصورة الغالبة عن المدينة. ثم قابلتُ زوجتي المستقبلية، وهي عالمة نفسانية، وأخذنا نتساءل عن هذه النظرية التي تنأى بالمدينة عن ناسها. وسافرنا، وراقبنا كيفية استعمال الناس الحيز العام وأثر هذا الأخير في استخدامهم له. وطوال 40 عاماً، دعوت طلابي إلى لحظ حاجات الناس قبل تصميم الأثاث وتخطيط المدن، على ما جرت الأمور طوال قرون. ولكن العقود الخمسة الماضية خرجت على إرث القرون المنصرمة، فانقطعت المدن من سكانها. وغيرت النزعة الحداثوية بعد الحرب الثانية النظرة إلى العمران وكأنها خلفت فجوة في ذاكرة المهندسين المعماريين. والعودة عن إهمال المدن الناس بدأت. فمدن مثل برشلونة وستراسبورغ ونيويورك تسعى إلى ترميم علاقاتها بالناس. فالناخبون يطالبون بمساحات مخصصة للمشاة وبشق طرق لسائقي الدراجات الهوائية. والسياسيون مضطرون إلى احتساب حاجات ناخبيهم. وفي المدن القديمة تسري حمى الاستماع إلى الناس، على خلاف المدن الجديدة مثل دبي حيث تغلب كفة المستثمرين والمتعهدين على كفة السكان القليلي العدد. وسكان المدن الجديدة التزمت مبادئ الهندسة والعمران الحداثوية التي يشغلها الهوس بأشكال المباني. ولسان حالي أن المدن النامية تشبه قوارير عطر شاهقة الارتفاع. وأرى أن الأمور تتغير في مدارس الهندسة المعمارية لتواكب نظرة الناس إلى الأماكن العامة. ويبدو أن سكان المدن لا ينظرون بعين الرضى إلى مآل دوائرها العامة. وفي الثمانينات والتسعينات، احتفي ب»المهندسين- النجوم» الذين لم يشيدوا غير النصب والمعالم البارزة. وفي العقد الماضي، بدأت المؤسسات والمعماريون يقبلون على أبحاثي ويقرون بأهمية رعاية العلاقة بين الحيز المديني وسكانه. ولا استسيغ محاكاة المدن الطراز الفولوكلوري الوثيق الشبه بعالم ديزني. ولكنني أدعو إلى الجمع بين المقاربة الإنسانوية والعمران. والبرج هو رد هندسي كسول على حاجات المدن مع تزايد عدد قاطنيها. * معمار ومخطط مدني دانماركي، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 22/2/2013، اعداد منال نحاس