قد لا تكون الأزمة المالية التي يتخبط فيها الاقتصاد الروسي بحجم تلك التي شهدتها دول جنوب شرقي آسيا قبل اشهر. إلا أنها تبقى حدثاً بالغ الأهمية ليس فقط بالنسبة الى روسيا ودول البلطيق التي كانت خاضعة للاتحاد السوفياتي السابق والتي لا تزال مرتبطة بالروبل وباقتصاد الامبراطورية الآفلة، بل بالنسبة الى الدول الغربية خصوصاً المانيا التي بلغت قروضها لروسيا نحو 75 بليون دولار. لذلك اكتسب التصريح الذي أدلى به الجمعة الماضي رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الاميركي آلن غرينسبان عن احتمال خفض سعر الفائدة الاميركية، أهمية خاصة. فقد أقر غرينسبان ان الولاياتالمتحدة "لن تبقى واحة ازدهار اقتصادي في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد العالمي مزيداً من المصاعب". ويعكس هذا الطرح تحولاً في موقف البنك المركزي الاميركي الذي كان يعتبر ان زيادة معدل التضخم في اميركا سيضر باقتصادها اكثر مما ستسببه الأزمة المالية الآسيوية. لكن العدوى الآسيوية انتقلت الى معظم الاسواق الناشئة والانهيار الروسي لن يكون آخرها بل واحداً من مسلسل انهيارات قد تطال اميركا اللاتينية وكندا والصين. اضافة الى جنوب افريقيا واوروبا الشرقية ومعلوم ان 40 في المئة من صادرات الولاياتالمتحدة يتجه نحو اسواق جيرانها في الجنوب ناهيك عن ان قسماً كبيراً من ديون واشنطن واستثماراتها قد أودع في تلك الدول. وتستأثر كندا بپ20 في المئة من الصادرات الاميركية، وهي من بين الدول التي تعاني من انخفاض اسعار المواد الأولية، كما ان اليابان الشريك التجاري الثاني للولايات المتحدة وتعاني من ركود اقتصادي منذ أعوام عدة. وكاد الخبراء ان يجمعوا على ان انهيار الاقتصاد الروسي الذي يستأثر بپ20 في المئة من حجم التجارة الدولية سيؤدي الى صدمة بالغة المحدودية على الاقتصاد العالمي واستبعدوا في وقت ما ان تنجم عنها عدوى تمتد خارج مجالها المباشر أي اوكرانيا ودول البلطيق وجمهوريات آسيا الوسطى. لذلك كانت مخاوف العالم الخارجي والغرب بشكل خاص حيال الانهيار الروسي الأخير ذات طبيعة أمنية وسياسية في المقام الأول. فروسيا المتأزمة اقتصادياً وسياسياً قد تجد نفسها امام اسوأ الاحتمالات، وربما تجسد هذا الاسوأ بحسب ما قدر البعض في انقلاب عسكري أو في انشطارات مناطقية عجزت السلطة المركزية البائسة عن إدامة وحدتها. وهنا تخوف من ان تفضي الأزمة الروسية الى زعزعة الاستقرار الداخلي واضعاف موقع الرئيس بوريس يلتسن الذي يرى فيه الغرب على رغم كل المآخذ عليه ضمانة استقرار روسيا وثباتها على خيار التعددية السياسية والاقتصاد الحر، في مواجهة برلمان يسيطر عليه الشيوعيون وقوميو فلاديمير جيرونوفسكي ومؤسسة عسكرية لا تزال تحوم حولها الشبهات. وقدم الانهيار الروسي الأخير دليلاً آخر على مدى إفلات العولمة من كل عقال سواء تعلق الأمر بمؤسسات أو هيئات تضبط وتتحكم، وعلى رغم الوهن البادي في الاقتصاد الروسي، جاء انهياره اخيراً مفاجأة للعديد من المراقبين، فقد تضافرت أسباب داخلية متعلقة بكيفية الاداء الاقتصادي الروسي الى حال من الهلع اللاعقلاني أصاب رؤوس الاموال المتنقلة بين أسواق البلدان الناشئة والتي تبحث عن الربح السريع سواء عن طريق الإقراض أو الاستثمار المباشر. وبما ان رأس المال الجوال ضيق الأفق فهو منذ انهيار الاسواق المالية في آسيا قبل نحو 18 شهراً فقد ثقته في تلك البلدان واتجه الى الدول الصناعية بحثاً عن الأمان والاستقرار من دون ان يكلف نفسه عناء المقارنة بين الاقتصادات الصاعدة وتقويم كل منها على حدة. وهكذا ينجم عن الانهيار النقدي هلع تنجم عنه انهيارات اخرى تفضي بدورها الى هلع جديد وفق حلقة شريرة لا يوجد ما يوحي انها ستتوقف يوماً. لذلك تدفع روسيا اليوم ثمن ما حدث في آسيا بالأمس وقد تؤخذ جنوب افريقيا واميركا اللاتينية بجريرة الأزمة الروسية. بعيد الحرب العالمية الثانية كان الاقتصاديون في العالم راضين عما كان يعرف حينها بالاقتصاد المختلط. وكانت الولاياتالمتحدة وصندوق النقد الدولي يعترفان بضورة عدم جعل الاسواق الناشئة رهينة المضاربات المالية والرساميل المتحركة، وكانت هناك قيود تضبط حركة هذه الرساميل وتنظمها وتحدد اسعار العملات لكي تساعد هذه الدول على التقدم. واليوم أصبح الانفتاح السوقي شرطاً أساسياً من شروط صندوق النقد الدولي ليقدم القروض أو الضمانات المالية لبلد ما. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق بلغت قيمة المساعدات الغربية الى روسيا نحو بليوني دولار في العام وهذا المبلغ لا يشكل سوى جزء يسير من المساعدات المالية التي انهمرت على اوروبا الغربية بعيد الحرب العالمية الثانية وذلك بموجب مشروع مارشال الشهير. ومعلوم ان الولاياتالمتحدة انفقت تسعة تريليونات دولار لكسب الحرب الباردة، وتصورت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ان قوى السوق ستعيد الاستقرار الى هذا البلد وهذا ما نصح به الخبراء الاميركيون رئيس الحكومة الروسية آنذاك يغور غايدار عام 1992. والنتيجة ان نسبة التضخم بلغت 2500 في المئة سنوياً وهي أعلى نسبة سجلت في روسيا عام 1992. وتغلبت على الحياة الاقتصادية في روسيا ظاهرة المضاربة والرغبة في الاثراء السريع معطوفة على ممارسات مافيوية في ظل دولة منحطة سياسياً وعاجزة عن استيفاء الضرائب. وربما كان سبب الفساد الاقتصادي والسياسي لا يعود الى عاهات تعاني منها البلدان الناشئة فحسب بل يجد في رأس المال المتنقل وتأثيره في الحياة الاقتصادية ذهاباً واياباً ما يغذيها ويزيدها استفحالاً. وازدادت اهمية رأس المال الجوال في ظل العولمة حتى اصبح اقنومها الاوحد الذي لا يحتمل مراجعة او دحضاً وباتت العولمة تنحصر في وجهها النقدي فقط. وكلما نزلت كارثة ببلد ما تحركت الدول الكبرى والمؤسسات النقدية الدولية لتطويق آثار الازمة الاقتصادية والسياسية من دون مساءلة نموذج العولمة النقدية والذي جعلته الارثوذوكسية الليبيرالية قدس اقداسها، ما ادى الى زيادة مصاعب صندوق النقد الدولي الذي اصبح غير قادر على الاستمرار في ضخ السيولة هنا وهناك بعد توالي الانهيارات واستفحال الازمات. وإذا كان اجمالي الناتج العام في العالم ينمو بنسبة اربعة في المئة في 1996 و1997 يخشى بعض المراقبين ان يغرق العالم في ازمة ركود لم يشهدها منذ اكثر من 60 عاماً في حال فشلت اليابان ودول الجوار الآسيوي في استعادة انطلاقتها الاقتصادية وأصاب الوهن الاقتصاد الاميركي. صحيح ان حجم الاقتصاد الروسي لا يتعدى 2 في المئة من الانتاج العالمي واثره المباشر على حركة التجارة محدود الا ان آثاره غير المباشرة تبقى كبيرة وخصوصاً على اسواق المواد الأولية وكلفة رأس المال وثقة المستثمرين، لذلك فان ازمة الروبل قد تكون القشة التي ستقصف ظهر البعير. ويشير المحللون الى ان الازمة المقبلة ستصيب اسواق اميركا اللاتينية، ففنزويلا قد تجد نفسها قريباً مكرهة على خفض عملتها، ويشبه البعض السوق البرازيلية بالروسية والتي يبلغ العجز في خزينة الأولى 7 في المئة بالنسبة الى الناتج المحلي الاجمالي وهي عانت اخيراً من خروج مكثف للرساميل، وقد تكون الحكومة البرازيلية قادرة لفترة محدودة على مواجهة الضغوط الهادفة الى خفض عملتها، الا ان الامر سيكون مكلفاً اذ ستضطر الحكومة الى رفع سعر الفائدة ما سيضاعف من مصاعب الشركات ويعيق التصدير. ويتوقع خبراء ان ينخفض الناتج المحلي في البرازيل اثنين في المئة السنة المقبلة، مؤدياً الى انخفاض الناتج المحلي لكل اميركا اللاتينية بنسبة 0.8 في المئة. ويمكن للأزمة الآسيوية والروسية ان تنتقل الى بلدان اخرى بواسطة طريقين: الأول اسعار المواد الأولية اذ من المعلوم ان البلدان الآسيوية تعتبر من كبرى الدول المستوردة للمواد الأولية، ورأينا كيف تسببت ازمتها المالية بانهيار اسعار النفط. وهناك تخوف من ان تسعى روسيا الى خفض اسعار تصدير موادها الأولية للحصول على العملة الصعبة التي هي بأمسّ الحاجة اليها، ما قد يؤدي الى انهيار اسعار هذه المواد والتي انخفضت بنسبة 30 في المئة منذ عام 1997 بحسب مؤشر مجلة الايكونوميست البريطانية للمواد الأولية. وهذا هو ادنى مستوى بلغته الاسعار فعلياً منذ 25 عاماً. اما الطريق الثاني الذي قد تسلكه عدوى الازمة فهو ثقة المستثمرين بالاسواق الناشئة بعد الخسائر الكبيرة التي تعرضوا لها في كل من آسيا وأوروبا ما ادى الى اتجاههم نحو اسواق اكثر اماناً في الدول الصناعية وخصوصاً في أوروبا وأميركا حيث شهدت الاسابيع الاخيرة اقبالاً متزايداً على شراء سندات الخزينة الاميركية، وهذا بدوره ادى الى ارتفاع عائد السنوات في الدول النامية بمعدل 15 نقطة مقارنة بالسندات الاميركية بعدما كانت هذه الزيادة لا تتخطى ثلاث نقاط. وهذا يعني ارتفاع اسعار الفائدة في الدول النامية الامر الذي سيزيد من صعوبة انطلاقتها الاقتصادية. وباختصار، فالعدوى في الاوضاع الاقتصادية الحالية شيء لم يعد ممكناً اجتنابه. وأبعد من هذا ان خطورة احداث روسيا كامنة في دفعها النظام المالي العالمي الى الهاوية. والنظام هذا غدا مصاغاً كالجسم العضوي البالغ التأثر والتأثير، فحين نضيف ما تحدثه الاسواق الفرعية، اي اسواق المضاربة من تسريع لحركة الاسعار يجوز لنا ان نتوقع الأسوأ. فالحكومة والمؤسسات الخاصة الروسية مدينة اليوم بپ194 بليون دولار لحكومات ومصارف عالمية وقد سبق لحكومة موسكو ان قالت انها لن تقوم بخدمة ديون بلغت 40 بليون دولار من سندات قابلة للتحويل الى دولارات تولت اصدارها كعملة من قبل. ومع تعاظم التردي في الاقتصاد الروسي يمكن ان يتعاظم الرفض الروسي للسداد مما قد يطول المبلغ كله، وعندها ستضطر المصارف الغربية التي اقرضت موسكو بأن تعترف بموت قروضها ما سوف يسبب مزيداً من المشاكل لهذه المصارف ولموازنة حساباتها. وبانعكاس هذا مجتمعاً على سياسة الاقراض المرشحة بدورها الى انكماش اكبر يمكن ان تنفجر اتجاهات حافزة على الركود في قلب اميركا وأوروبا نفسهما. هذه هي المحطات الرئيسية للأزمة التي يخشى كثيرون ان ما تحمله من روائح الكارثة والانسداد كفيل باختراق الانوف جميعاً