تتسم الأزمة الاقتصادية المتسعة الحالية بأن الأسواق لم تعد تستقبل التطورات الايجابية بثقة. فعندما خفض مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الأميركي في أواخر أيلول سبتمبر الماضي الفائدة بنسبة ربع في المئة، لم تنظر البورصات إلى الخطوة على أنها مقدمة لخفض لاحق، ونهاية لمرحلة صعود الفائدة على الدولار التي امتدت لثلاث سنين متتالية، إذ انخفضت أسعار الأسهم كما تراجع سعر صرف الدولار. وذهب بعض المحللين إلى القول لو ان البنك المركزي الأميركي خفض الفائدة بأكثر من تلك النسبة لاعتبرت الأسواق ان الهلع يسيطر على ألان غرينسبان ولجنة السوق المفتوحة. غير أن خيارات غرينسبان قليلة، فهو لو خفض الفائدة بسرعة على الدولار تدهورت أرباح الشركات الأوروبية واليابانية وحدث انكماش اقتصادي خطير في دولها بسبب فارق سعر الصرف أسعار الفائدة الألمانية واليابانية منخفضة في الأساس. وإذا أبقى الفائدة عالية عانت الدول والشركات المدينة من كلفتها إلى حد يهدد بالكساد الشامل. وتعالت أصوات المتشائمين إلى حد توقع كثيرون أن يدخل العالم مرحلة كساد شامل شبيهة بتلك التي مر بها العالم في نهاية العشرينات والسنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. المحللون للأزمات الاقتصادية يشبهون الجنرالات العسكريين ويفكرون بالحرب المقبلة من خلال الأسلحة التي واجهوها في الحرب الماضية. ولسنا هنا في معرض نفي أو تأكيد أن العالم مقبل على كساد ثلاثي أم لا، فليس هناك من يستطيع ان يجزم بهذه النتيجة أو عكسها من خلال الأزمات السابقة، فالتاريخ، حتى الاقتصادي منه، لا يعيد نفسه وتبقى دراسته لاستخلاص العبر. في لندن حاول الخبيران المصرفيان ايان هارورد وديلان رايس من قسم الأبحاث في مصرف "كلاينفرت بنسون" أن يحددا أوجه المقارنة بين أزمتي الثلاثينات والتسعينات، وأكدا في دراسة جديدة مفصلة أن أوجه الشبه بينهما كثيرة، لكنهما اكتشفا أيضاً أوجه اختلاف جوهرية. في العشرينات تعرضت الدول الانغلوسكسونية، ومن بعدها اليابان إلى دورات من النمو والركود تمخضت في عام 1929 عن غرق في مرحلة كساد شامل. مظاهر العشرينات بدأت مظاهر الركود تتبلور عندما أخذت بورصة وول ستريت تهبط في تشرين الأول اكتوبر 1929 من مستويات مبالغ فيها. جاء التدهور بعدما أحكمت السلطات المالية سياساتها النقدية بقوة للجم معدل التضخم المستفحل. إذ ساد الرهان في العشرينات على أن مرحلة النمو مستمرة على رغم التراجع الذي برز في ارباح الشركات. وعلى صعيد حركة رأس المال، ساعدت الرساميل التي انتقلت في أواخر العشرينات من الولاياتالمتحدةوبريطانيا إلى دول نامية، لا سيما المانيا، على حدوث رواج اقتصادي واسع. وعندما انحسرت الرساميل عن تلك الدول - سواء على شكل قروض مصرفية أو اصدار سندات اقتراض أو حركة رساميل صناديق الاستثمار الأميركية - حدثت مشاكل اقتصادية كبيرة في الدول المدينة. وأدت المشاكل الجديدة في الثلاثينات إلى تراجع الدول عن حركة العولمة التي جرت في العشرينات. حيث تبنت سياسات تقيد حرية انتقال الرساميل، وجمدت دفع الديون المتوجبة، ومارست الدول حماية تجارية عرقلت احتمالات النمو. التسعينات والصورة تتكرر تماماً في أيامنا هذه، حيث نزحت الرساميل بسرعة عن الدول الآسيوية والأميركية اللاتينية التي لعبت الدور الأساسي في دفع عجلة النمو الذي عرفه العالم منذ منتصف التسعينات. وتوقفت دول مثل ماليزيا وروسيا عن السير في نظام حرية السوق وانتقال الرساميل، وجمدت دفع ديونها، فيما اضطرت هونغ كونغ إلى التدخل في السوق لحماية أسهم الشركات فضلاً عن قيمة عملتها. ويبدو أن صندوق النقد الدولي لم يستفد من تجربة كساد الثلاثينات، حيث فرض اجراءات على الدول الآسيوية جعلت اقتصادياتها تنكمش بسرعة، من ذلك رفع الفائدة كثيراً لحماية سعر الصرف والحفاظ على ثقة المستثمرين، وفشل في الحالتين. وفي العشرينات والثلاثينات فرضت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة سياسة مشابهة على نفسها من أجل الحفاظ على الغطاء الذهبي لعملاتها. أضف إلى ذلك، أن أومة العشرينات تتشابه إلى حد بعيد مع أزمة التسعينات لجهة تضخم المديونية الداخلية والخارجية للشركات الآسيوية بما فيها اليابانية. وفيما اتسمت جميع دورات النمو والانكماش التي تلت الحرب العالمية الثانية بالسخونة الاقتصادية التي تنتهي بأحكام السياسة النقدية، نجد أن الأزمة في الثلاثينات اتسمت باستقرار أسعار السلع والمواد على غرار ما يحدث حالياً. إذ تنعم الدول الصناعية الكبرى السبع في أيامنا هذه بارتفاع محدود في أسعار المواد الأساسية لا يتعدى اثنين في المئة مع توقع ان يستمر هبوط التضخم على المدى المنظور. وهبوط الأسعار ليس ناجماً عن تراجع الطلب في أسواق الدول الصناعية الغنية، بل في شكل أساسي بسبب التعثر الذي واجهته الأسواق الصاعدة في حركة نموها، والذي أدى إلى دخولها مرحلة انكماش حاد خلال فترة وجيزة. أما في التسعينات، وكما في حالات الركود التي جرت في السبعينات والثمانينات، ساعد النمو الاقتصادي في آسيا وأميركا اللاتينية وغيرها، على اخراج الدول الصناعية الكبرى من أزماتها. أوجه الاختلاف بعكس أزمة عام 1929، لا تمر الدول الصناعية الكبرى، باستثناء اليابان، بمرحلة انكماش اقتصادي، وان كان هذا الاحتمال يبقى وارداً. ففي الفترة بين عامي 1929 و1932 إنهار الانتاج الصناعي في الدول الكبرى، بينما كان الوضع في الدول المنتجة للمواد الأولية والمواد الخام أسوأ بكثير. لا يزال الانتاج الصناعي الياباني يتجه نحو الهبوط، فيما يستمر النمو في الدول الأوروبية وفي الولاياتالمتحدة. غير أن الوضع قد لا يستمر على حاله لفترة طويلة، كما حذر مايكل موسى الخبير الكبير في صندوق النقد الدولي. وخفض في نهاية الشهر الماضي من احتمال هبوط النمو الاقتصادي في العالم ككل إلى نسبة اثنين في المئة. وحذر من أنه إذا وصل العالم إلى نسبة نمو لا تزيد على واحد في المئة لفترة، يمكن اعتبار ان الركود شمل العالم بأسره. ووقع في أزمة عام 1929 انكماش عام وشديد في الأسعار. وعلى رغم أن أسعار المواد لا تزال عرضة للانكماش، إلا أنها لم تنكمش فعلياً حتى الآن. فارتفاعها السنوي في بريطانيا لا يزال بنسبة 5،2 في المئة، وفي المانيا بنسبة واحد في المئة، وفي الولاياتالمتحدة بنسبة اثنين في المئة، وهناك تضخم طفيف في معظم الدول الصناعية الكبرى السبع. لكن هذه النسب الطفيفة لا تبعث على الاطمئنان، ولا يزال خطر انكماش الأسعار وارداً في حال انضمت دول رئيسية مثل المانيا إلى قائمة الدول التي تنكمش الأسعار فيها. واعتبر الخبيران هارورد ورايس ان الدول الصناعية الرئيسية تجاهلت فوائد التضخم في غمرة محاربتها لجوانبه السلبية الكثيرة. فتجربة "الكساد العظيم" الذي مرت بريطانيا به 1873 - 1896 جعل رجال الاقتصاد يتبنون أهداف تضخم ضرورية. ولقد تبنت السويد بالفعل في أوائل الثلاثينات معدل تضخم يحفظ قيمة السلع عند مستوى صحي يضمن استمرار الانتاج. وفي الستينات اعتبرت الحكومات ان شيئاً من التضخم يحرك الاقتصاد ويخفف نسبة البطالة. ولم تشعر بمخاطر التضخم الحقيقية إلا في السبعينات والثمانينات حين رفعت الفوائد كثيراً لامتصاص السخونة من النمو الاقتصادي السريع. ولا شك ان الانكماش الاقتصادي في كل من اليابان وسويسرا في السنوات الأخيرة لا يبعث أيضاً على الارتياح لا سيما إذا كانت سياسة الأجور غير مرنة إلى حد يسمح بخفضها مع هبوط كلفة المعيشة. ويختلف الوضع حالياً بصورة أساسية عنه في العشرينات والثلاثينات لجهة مرونة أسعار الصرف. فالغطاء الذهبي الذي تمسكت به الدول في تلك الفترة والذي أدى بعد ذلك إلى انكماش اقتصادي خطير، لم يعد قائماً. حيث أدى احتفاظ المصارف المركزية بمخزون هائل من الذهب إلى نقص كبير منه في الأسواق جعل نظامه يفشل. إذ تجمعت أكبر كتلة من الذهب المكدس في الولاياتالمتحدة وفرنسا. وفي المقابل، هناك اتجاه حالي إلى مزيد من خفض أسعار الفائدة بعد استخدام العملة الأوروبية الموحدة اليورو، بعكس النظام السائد في آلية الصرف الأوروبية الذي جعل المانيا تصدر في أوائل التسعينات الركود إلى الدول المجاورة بسبب كلفة توحيد الشطر الشرقي. ومن أوجه الاختلاف ان نظام التجارة العالمي كان يتسم في العشرينات بالحماية المكبلة، فعلى رغم الجهود التي بذلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى لتحريرها، فرضت الولاياتالمتحدة في الثلاثينات رسوماً جمركية عالية - بموجب قانون سموت هاولي - جعلت حركة التجارة العالمية في 75 دولة تبهط بسرعة فائقة خلال ثلاثة أعوام، من نحو ثلاثة بلايين من الدولارات الذهبية الأميركية عام 1930 إلى 992 مليون دولار فقط عام 1933. أما في الوقت الحالي، فحرية التجارة لا تزال قائمة مع التزام عام بها يخفف من مخاطر الكساد. مع ذلك هناك دول قليلة تتجه إلى حماية أسواقها بعد أن التزمت بحرية التجارة. ولو ان الصين مثلاً لجأت إلى خفض قيمة الرنمبيني، أو ألوان - عملتها - كرد على التدهور الذي أصاب عملات دول اقليمية كثيرة، بما في ذلك اليابان، لارتبك النظام التجاري في حوض المحيط الهادي، وانتقلت العدوى إلى مناطق أخرى عدة. لذا تسعى منظمة التجارة العالمية إلى الهجوم الوقائي بهدف توسيع إطارها واستيعاب دول جديدة لدرء مخاطر حرب العملات وما ينجم عنها من حماية مبطنة للأسواق. وحدثت في الثلاثينات حركة إفلاسات واسعة في المصارف الأميركية والألمانية وبعض دول وسط أوروبا أدت إلى انكماش حركة الإقراض الداخلي والخارجي، وسمح البنك المركزي الأميركي الاحتياطي الاتحادي بانكماش حاد في العرض النقدي، فيما لم يكن هناك شيء يسمى ب "دائن الملاذ الأخير" يستطيع ان يحمي النظام المالي من الانهيار. وهو دور تلعبه حالياً المصارف المركزية. وكانت بريطانيا في حال من الضعف المالي منعها من لعب ذلك الدور، فيما لم تحاول الولاياتالمتحدة ان تحل محلها رغم امكاناتها المالية الهائلة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. لكن في أزمتي السبعينات والثمانينات انضمت اليابانوالمانياوالولاياتالمتحدة في لعب هذا الدور بعد فشل الولاياتالمتحدة فيه بمفردها. غير أن الأزمة المكسيكية في منتصف التسعينات دلت على أن الولاياتالمتحدة عادت لتلعب دوراً فعالاً في أزمات قريبة منها. والوضع يتكرر حالياً في البرازيل والارجنتين وغيرها من دول أميركا اللاتينية التي تستورد ما يزيد على عشرين في المئة من الصادرات الأميركية، ولو سمحت واشنطن لهذه الدول بأن تنهار مالياً، لدخلت الأزمة إليها من أوسع الأبواب. وأخذ كثيرون على ألان غرينسبان مساندته لانقاذ صندوق التحوط المتعثر ل "لونغ تيرم كريديت منجمنت" بمبلغ ثلاثة بلايين ونصف البليون دولار. لكن تجربة الثلاثينات ربما هي التي جعلته يتحرك بسرعة ليوقف انهيارات مصرفية في هذا الظرف الحساس. والذي ينظر إلى أسهم العديد من كبرى المصارف الأوروبية والأميركية بعد أزمة صندوق التحوط الأميركي يلاحظ هبوطاً يزيد في عدد منها على أربعين في المئة. وهو ما يعكس مدى القلق من تكرار انهيارات مصرفية حدثت في العقود الأخيرة. أما في اليابان فإن المعالجات لأزمة المصارف تبحث عن حلول قيصرية خاصة بعد أن خفضت وكالات تصنيف الملاءة مراكزها. وبدا ان مصرفاً فقط من أصل 19 مصرفاً في اليابان يتمتع بأرباح، الأمر الذي جعل حركة الاقراض في اليابان تنكمش عما كانت عليه قبل عام، ومعه يتفاقم الركود في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ومن المؤكد ان حكام المصارف المركزية في الدول الرئيسية الذين يدركون جميع هذه المخاطر يخشون كثيراً من تداعي عدد من المصارف التجارية، وهو احتمال كبير يزداد ضخامة كلما كبرت خسائر المصارف نتيجة التمويل التجاري واستعصاء تحصيل الديون. لذا، يدعو الخبيران إلى: - مواجهة الركود بزيادة الطلب الاستهلاكي عبر معالجات مالية ونقدية. - تحاشي انهيار المصارف واختفاء مصادر الاقراض. - الحفاظ على حرية التجارة. - ضرورة تفادي حرب عملات على ضوء خفض متكرر للفائدة على الدولار، بينما لا يستطيع البوندسبنك أن يخفض الفائدة بنسب مماثلة