المرة الاولى التي دخلت فيها شقة السيدة فيونا حدثت بالصدفة. مطبخ وغرفة واحدة للنوم والاستقبال، في النافذة نبتة جيرانيوم خشنة المظهر. سيد أل .... جئتُ ماراً بأحد شوارع المنطقة، فلمحتها تنزل سلالم الباب الخارجي، مرتبكة، أنظارها تبحث عمّن تناشده العون. نادتني، وهي تحاول تذكّر الاسم، بَيدَ أن لسانها تلعثم في الحرف الأول ونسي الباقي. أيها السيد! صاحت في المرة الثانية. نعم، سارعتُ إلى القول، أوجه خطوي نحوها، لأن انزعاجها الواضح أثار اهتمامي. - أعتقد أن شخصاً غريباً داخل بيتي، أيمكنك مساعدتي للتأكد من الأمر؟. منذ فرة طويلة أشاهد هذه المرأة في بنك بيركلي يفصل بيننا زجاج مُدرّع، ببضعة ثقوب للحديث، ولوجود أسماء الموظفين على شارات معلقة في قمصانهم، انطبع اسم فيونا من دون كل الأسماء في ذاكرتي. فيونا، جملة موسيقية متكاملة، تُفتتح بالحركة وتغيب في الصمت. - حاولت الاتصال بالبوليس، لكن الجيران غير موجودين، قالت محتفظة بنفس الرزانة. لستُ واثقة من شيء، إلاّ أنني سمعت حركة بيّنة في الداخل. تعرف... المنطقة هنا لا تخلو من الأحداث! أجابت، وهي تسبقني بخطوتين، على كل الأسئلة التي قد تخطر للإنسان في حالة كهذه. كنا نرتقي سلالم داخلية ضيّقة، وعندما بلغنا الباب تبدد الكثير من توترها. فتحتْ الباب ووقفت ترهف السمع، عيناها تبحثان في نظراتي وانتباهي عن اشارة ما. قلتُ بصوت خافت، متلبساً، بلا معرفة أو مهارة، دور المخبرين الشجعان في السينما: - معك حق، توجد حركة في الداخل، وقبل أن أفكر بالخطوة التالية، دفعت فيونا مصراع الباب ودخلت بجرأة. لا يوجد أحد في غرفة النوم، ولا في الحمام الذي يليها، وحين ذهبنا إلى المطبخ فوجئنا بقطة كبيرة، سوداء، جاثمة على حافة النافذة، تدير نحو الداخل عينين براقتين، متحفزتين، ما أن شاهدتنا حتى قفزت إلى الخارج. لم تكن فيونا، وقد راقبتها بفضول أثناء زياراتي للبنك، ممن يهملون واجب اللياقة والمجاملة التي تفرضها البنوك على موظفيها، لكنها تقدم الابتسامة وعبارات الترحيب في وقار، في حدود لا تترك مجالاً للمعاني السائبة بالتطفل على لغتها أو تعبيرات وجها. في آنٍ واحد، انفجرنا ضاحكين لمرأى القطة وهي تهرب في وثبة رشيقة، غير متعجلة. - يا للأمر المخيب! قالت فيونا، تغطي أسفل فمها بأطراف أصابعها لتستر الكلمات. في احدى الزيارات للبنك، وكانت فيونا تتكلم معي بود، وتضحك لتعليقاتي وهي تنجز معاملة قرض صغير، تهتم البنوك بتشجيع زبائنها على طلبه لما يحققه لها من فوائد، شكرتها وأنا أنهض، ثم أخرج ملاحقاً بكلمات التوديع الروتينية، انتبهتُ، بعد لحظات قليلة إلى أمر همّني الاستفسار عنه، فعدتُ أدراجي إلى البنك، لأسأل الموظفة ذاتها، فيونا، المساعدة فقالت: آسفة، انتهى دوامي على هذه الطاولة، وحين وقفتُ أنظر بدهشة، غير مصدقٍ تحوّلها الجليدي الذي انطبع على وجهها، عادت تؤكد: آسفة جداً، انتهى دوامي هنا، ويمكنك انتظار الموظفة الأخرى التي تحلّ هنا بين دقيقة واخرى. يومها شعرتُ أن هذه المرأة، المهذبة للغاية، التي بمقدورها أن تكون مجاملة بشكل اعتيادي، تنسلخ في غضون لحظة قصيرة عن الحالة التي كانت منغمرة فيها، تتحوّل من العالم الخارجي إلى عالمها الخاص بآلية قاطعة، سريعة، صارمة وجافة. آسفة جداً.... قالت فيونا، وهي تتخلّص من نوبة الضحك التي غرقنا فيها، بينما أنظارنا ما زالت معلقة بالنافذة الخالية، الآن، من أي أثر لوثبة الحيوان المتكاسلة: لا تهتمي، أجبتها. لم أتأخر عن أي شيء، كان الحادث طريفاً، وهذا يكفي بذاته. إلاّ أن فيونا حركت يديها في حيرة، تفكر فيما يمكن عمله تعبيراً عن عرفانها بالجميل، لتأخير تصرّ، على ضوء طبيعتها وفهمها للامور، أنها سببته لي، وانتزعت جزءاً من وقتي نتيجة قضية لا تعنيني من بعيد أو قريب، فعدتُ أؤكد، وأنا أهمّ بالخروج: لا تهتمي، في الأقل.. دعني أصنع لك فنجان شاي! فنجان شاي مع فيونا، عرض مغرٍ، لم أكن أتوقعه وليس بإمكاني رفضه. أخيراً تمنحني القطط الجائعة فرصة رائعة، للتقرب من هذه المرأة، للحديث معها خارج البنك، على مقربة ومع فنجان شاي انكليزي، يستغرق احتساؤه ما تشاء من وقت في تبادل الأحاديث. لماذا لم تتذكر الاسم، اسمي؟ هل ارتباكها من وجود لص في الشقة هو السبب؟. فيونا تستقبلني بالتحية، ناطقة اسمي بوضوح، حالما أبلغ نافذة الصرف الزجاجية، أو طاولة المعاملات التي تجلس عليها أحياناً. أكاد أجزم أنها أصبحت منذ السنة الأولى تنقل اسمي الى الكومبيوتر من غير إلقاء نظرة على الأوراق للتأكد من ترتيب حروفه، فكيف نسيته في بحثها عمّن ينقذها من خطر غامض، وبعد أربع سنوات من مراجعاتي للبنك؟ لم أقصد ذلك، قالت فيونا عندما أشرتُ، مازحاً، إلى نسيان ألقاب وأسماء الزبائن. لا أعني أي شيء، آسفة لهذا، أكدتْ من جديد ثم أطرقت فوق كوب الشاي. بدت صادقة في ردّها، محرَجة من غير تكلف، وشعرتُ من ناحيتي بصفاقة السؤال وخطأ توقيته، إذ أنها لم تكن لتتخلى عن اعتدادها بشخصيتها تحت كل الظروف، لذلك انكمشتْ دواخلي، ليغدو نصيبي من الحرج أشد وطأة، بَيدَ أن فيونا انتشلتني من المأزق وهي ترفع نحوي وجهاً معبّراً لتقول: إنني أنسى الألقاب حالما أخرج من البنك، أنسى الوجوه أيضاً، حتى وجوه زملائي لا يبقى لها أثر في خيالي، تنمحي كلها، لا أكاد أعرفها ما إن أعود إلى حياتي الخاصة، وعندما شاهدتك في الطريق لم يكن وجهك ليعني، بالنسبة لذاكرتي، أي شخص محدد، حرف واحد طفر على لساني في تلك اللحظة، كما لو أنه انبثق من مكان بعيد في داخلي، ثم نسيت كل شيء. لكنكِ شاهدتِ هذا الوجه مئات المرات في البنك، قلت في حماس، وإبهامي يشير بإلحاح الى وجهي. ردّتْ: نعم، لكنني حين ناديت عليك كنتُ في الشارع، وليس في البنك، أنا أقول الحقيقة. جلسنا في الصمت، كلٌ منا ينظر في عيني الآخر. ثابتةٌ، عميقة، تعكس صورة ذاتها بوضوح كانت. مندهشاً، غير مصدق، مثل سباح تأخذه الأمواج بعيداً عن قدراته كنتُ. غرفة فيونا نظيفة للغاية، أثاثها بسيط، فقير، مرتب بشكل صارم، وفي تلك اللحظة بدت زهرة الجيرانيوم موحشة، منزوعة بقسوة من محيط كانت فيه أكثر جمالاً، وربما أكثر بهجةً، وهي حاضرة الآن، في هذا المكان، فقط لتجسد الحالة التي تنكبّ عليها صاحبة الشقة. في الأيام التي سبقت أعياد الميلاد، شاهدتها في السوق تحمل أكياساً صغيرة. لم أحيِّها، فلم تستغرب، لاحظت مروري، لكنها احترمت تصرفي، اعتبرته عادياً، ومرّ كل منا في طريقه. بعد انتهاء الأعياد ارتقيت السلالم الضيقة وطرقتُ الباب. كنتُ مزمعاً على التغلغل الى أعماق هذه المرأة الإنكليزية، المعتدّة بشخصيتها، لأسباب خاصة وبعيدة، أصبحت، فجأة، ملحّة وكأن وحدة فيونا، كأن غيبوبتها عن العالم المحيط بها ألقيا في طريقي الضوء اللازم للتحرك بإتجاه أهدافي، التي كانت غامضة ومترددة حتى ذلك الحين. ليس من الضروري أن تصبح الأشياء والناس جزءاً من حياتنا لنحسّ بوجودنا، لأن الإحساس بالوجود يمكن أن يتحقق، أيضاً، عِبرَ أتفه الأشياء، ومن خلال أصغر المخلوقات، مع أية حركة للزمن مثل شروق الشمس وغروبها، لكن ما يدهشني في طباع فيونا، قبولها لإنزوائها، لعلاقتها الهشة بالعالم، بصمت واحترام عميق للذات. أي أنها، إزاء وضعها الغريب، تلبستْ قدرها بالكامل، مثل نساء أثينا القديمات، بالدم وإعمال السيوف القاطعة أو بدونهما، قُيِّد مصيرهن بالنهايات التراجيدية. حين شاهدتني، أبدت فيونا ارتياحها للزيارة. فتحتْ الباب إلى آخره كي أدخل، وفي المطبخ بدأتْ تعدّ كوب الشاي، بينما قعدتُ على أحد الكراسي. الآن، بعد ثلاث سنين، حين أتذكر دمعة فيونا الصامتة، بينما أكتب في الساعات الأولى من الصباح، وفي رأسي ينتصب جرس التلفون، قلقاً، متوتراً، ينتظر جنون الشحنة القادمة من بعيد، لينطلق رنينه فأسمع صوت فدوى تؤكد قرار مجيئها إلى لندن، بعد إصابتها بأولى أعراض الأنهيار العصبي، قررتُ أن أترك اللغة تبعثر نفسها كيفما تشاء، لتنقل كلام فيونا على صورته الحقيقية، وهي تتحدث عن النظرة الغريبة التي حطمت حياتها: "أكرهه، أمقت كل أنواعه، الجيرانيوم. كم ملعقة سكر تحبّ؟ واحدة! والقطط تدخل بعيون جاسوسة، تبصبص لتعرف ماذا آكل، ماذا أشرب. أتركه لفترات طويلة، أحياناً، من غير سقي، الى أن يذبل، يضعف ويكاد يموت، ثم أحيّه من جديد بالماء، أعذّبه بالعطش، هذا بسكويت هنا..إذا رغبتَ، إحم إحم، أسفة. ما إن تفتح شيئاً للتهوية حتى يدخلون، ليس في الشقة، في آذانك وإنفك وفمك، أعني..الميو ميو، والهوام الأخرى.ويكفيلد حيث ولدتُ، مئة وخمسون ميلاً عن لندن، ليس في القرية من يهتم بهذه النبتة غيره، يضع أصصه في كل النوافذ، كأن الأرض الواسعة حول البيت لا تكفيه. افركْ ورقة بين أصابعك وسترَ أي غاز كريه يقتحم أنفك! تقول أمّي والدك يشكو من موت نبتاته، تنفق مثل النعاج، تنفق لوحدها، صدقني، لكنه يوجه اللوم لي. طبعاً كنت أحبّه، كنت متعلقة به. أنتِ أجمل من أمّكِ، يقول ويظهر لي الشكولاته من جيبه، فاحظنه، أتعلّق برقبته، آه، كم أشمئز..! القليل من الشاي الاضافي؟ أحبُّ هذا البسكويت، لا أحبّ الموظفين في باركلي، لهم رائحة الجيرانيوم، لا أستطيع تذكّر وجوه الناس، ولا الأسماء، في الخارج، البعض يشكو، ماذا أفعل! إذا كنت أنسى؟ ألا تكفي ست ساعات من النهار معهم! عندما شاهدني مع جيمي لاحظتُ شيئاً غريباً في نظرته، له مرارة الجيرانيوم، بالمناسبة الجيرانيوم له مذاق مرّ، تَفِه. اخدم نفسك من فضلك إذا رغبتَ في بعض القطرات من الحليب. لماذا جيمي؟ قال. لماذا لا؟ لم أفهم. أرجو المعذرة، إنها السابعة، يجب تناول الحبة الثانية من الفاليوم. لماذا هاري؟ قال، قلتُ لماذا لا؟ لا أعرف. في كل مرة يسأل تظهر مرارة الجيرانيوم في عينيه. شيء غريب، أليس كذلك؟ في البلد الذي قلتَ إنك قدمت منه هل يوجد جيرانيوم؟، هذه النبتة القبيحة. لماذا ستيف؟، قال، لِمَ لا يكون، من فضلك؟ قلتُ، وكنا نحتفل بعيد ميلادي الرابع والعشرين، فاتخذتْ الكعكة هيئة الجيرانيوم، ورائحته. صرختُ بالجميع، لِمَ لا؟ قولوا لي، لماذا لا يريد الوالد ستيف أيضاً؟ رجاء ساعدوني كي أفهم! صاحت أمّي، أخيراً، أنتَ رجل أناني يا بيتر، رجل ريفي، سوف تحطم طفلتي. "إنه كل هذا، مع تلك النظرة الغريبة، التي تطلّ من عينيه، كلما رآني مع شاب، أو أبدى أحدهم الرغبة في خطبتي. طبعاً، بالتأكيد تركتُ ويكفيلد إلى لندن، لا يستطيع أحد إجباري على البقاء، لكن..المزيد من الشاي؟ لا تريد!..لكن تلك النظرة بقيت ترعبني، نظرة والدي، تظهر مثل الجحيم كلما تودد إليّ رجل، وعندما تزوجني دانييل، اكتشفنا إنني عاجزة، جنسياً وعاطفياً، إني امرأة ليست لمشاعرها أية علاقة بجسدها. المسكين داني! حملني إلى المستشفى، في اليوم التالي لليلة الزفاف، إذ اصبتُ بأول إنهيار عصبي"