يلازم التضاد الذي تتأسس به ثنائيات العالم الشعري لأمل دنقل نزعة حَدِّية غالبة، تتجلى في الرؤية الأساسية لهذا العالم، وتصوغها بما يجعل منها رؤية حدِّية لا تعرف المهادنة أو المصالحة أو الحلول الوسطى أو معنى التوسط بين الأطراف. وكل شيء مقسوم قسمة حدِّية في مدى دلالات هذه الرؤية على نحو يغدو معه العالم الذي تجسده صراعا بين أطراف لا تعرف الحوار الذي يغيّر من المشتركين فيه. ولا التقاء بين الأطراف المتضادة في هذا الصراع، أو منطقة وسطى تخفف من حدِّية التضاد، فوجود كل ضد نفي للضد المقابل ورغبة في إزاحته المطلقة من الحضور. والصراع أبدي بين الأطراف، لا ينحل في مركب يجمع ما بين النقائض أو يجاوز حدِّية التضاد في متوسطات جديدة. وهو متصل ومستمر على كل المستويات لا بقاء فيه إلا للأقوى، ولا انتصار فيه إلا لمن يمضي إلى الحد الأقصى من مدى الفعل. والحدِّية تقابلات قصوى في الصراع الذي يشمل كل شيء، ابتداء من مدى المبدأ الأكبر للكون وانتهاء بمدى المبدأ الأصغر للكائن، حيث تتقابل، دائما، إرادة الخلق والتدمير، الحضور والغياب، الخير والشر، تماما كما يتقابل الليل والنهار في دورة الزمن، الحياة والموت في دورة الوجود، الصعود والهبوط في دورة التاريخ، الخنوع والتمرد في دورة الكائن. ولا انتصار نهائي مطلق لطرف من الأطراف في هذه الرؤية الحدية، وإنما غلبة إلى حين يحده الموت القادم من الخارج أو الهزيمة التى تتولد من الداخل. وعندئذ، ينقلب التراتب بما يستبدل طرفا بنقيضه، لكن بما يبقي على حدِّية التضاد في الحركة الأزلية لدولاب الزمن الذي يدور صعودا وهبوطا، أو هبوطا وصعودا بالكائنات والأفراد والجماعات والأمم. هكذا، يتحرك البشر في العالم الشعري لأمل دنقل مابين التناقضات الحدية التى إما أن تصل بينهم في دوائر المشابهة المتصالحة بمعنى من المعانى أو تباعد بينهم في دوائر المخالفة المتعادية بأكثر من معنى من المعاني. والحلول كاملة في هذه الدوائر، لا تخلو من صفات الإطلاق التى تنبني بها المشاعر والانفعالات والأفكار والمفاهيم والقيم في العلاقات المتجاوبة، فرديا وجمعيا، أخلاقيا ومعرفيا ووجوديا وإبداعيا، فالاطلاق الحدِّى عنصر تكوينى حاسم في حركة الأضداد التى تتقابل حول الخطوط الفاصلة في عالم أمل. وهى حركة لا تكف عناصرها عن الاختيار الحدى، الحاسم الصارم كالسيف القاطع، ما بين إما..وإما، مستبدلة الأقصى بالأقصى في حدِّية التقابلات التى تغدو علامة وجود وشعار هوية وفضاء سلوك ومجال ممارسة ذاتية واجتماعية في الوقت نفسه. ولا تعني هذه الحدية سرعة الانتقال ما بين النقائض، كما يحدث في التكوينات المزاجية الانفعالية على المستوى الفردي، أو العقلية الريفية التى يمكن أن تنتقل من النقيض إلى النقيض في أقصر وقت على المستوى الجمعي، وإنما تعني الحدية في العالم الشعري لأمل الالتزام بالمواقف نفسها، وعدم المرونة في الممارسة الحياتية، أو الهوادة في الأداء الإبداعي، ومن ثم الرفض المطلق للتفريط في المبادئ أو التخلي عنها أو قبول المساومة فيها أو عليها، فحدية الإيمان بالمواقف المبدئية هى الوجه الآخر من حدِّية السلوك الذي يحافظ على ثباته، سواء في مدى الممارسة أو الفعل أو العلاقة التى تحكمها قيم وتصورات راسخة كالصخور الجرانتية لأقصى الجنوب المصري الذي ولد فيه أمل وتشّكل بتضاريسه الحادة. والمظهر الشعري لذلك هو ما تكتسبه علاقات الدلالة من صفات الثنائية الحدِّية في القصائد، حيث تظل هذه العلاقات محافظة على تقابلاتها الحدية بين الأطراف المتضادة. ومثال ذلك قصائد الأقنعة التى لا تفارق حدية التضاد، سواء كان التضاد الذي لا هوادة فيه بين "لا" و"نعم" في قناع سبارتاكوس، أو التضاد المماثل بين الشاعر المقموع والقيصر القامع في القناع نفسه. وذلك هو التضاد نفسه الذي يفضي إلى الحدية الموازية بين الصمت والنطق في قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" حيث تتجاوب حدية التقابل بين الاستسلام والتمرد في الصوت الصارخ في القناع، بعد الهزيمة، مع حدية التضاد الموازي بين "الملك" و"الكتابة" في قناع أبي نواس، أو الشاعر الثائر والسلطان الخانع في قناع المتنبي، أو سيف الدولة وكافور على مستوى التقابلات الحدية للحكام في القناع نفسه. ونضيف إلى ذلك حدّية النزوح والبكاء أو الهروب والصمود في قناع ابن نوح، وحدّية التقابل بين الشرف والعار في قناع كليب، والصداقة والخيانة، الإذعان والرفض، في موازاة التنافر والوحدة في القناع نفسه. وأخيرا، الوحدة والتجزؤ في سفر التكوين، حيث الحدية التى تكتسب صفات كونية، يتقابل فيها الواحد والمنقسم تقابل الحب والكره، العدل والظلم، العقل والجنون، الفقر والغنى، في دوافع عنف التمرد الذي يتحد بريح صرصر عاتية من منظور الرغبة، ريح تكنس عفن الأرض وتطهرها، لتسلمها بريئة نقية إلى الفقراء الذين هم زينتها. وكلها أمثلة على حدية الثنائيات الضدية التي تتقابل فيها أطراف الماضى والحاضر، الأنا والآخر، مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع، القامع والمقموع، الحياة والموت، الحب والكره..إلخ. لكن في موازاة ثنائيات مقابلة على مستوى التشابه الذي لا يخلو من الحدية بدوره. والثنائيات الأخيرة هى التى تصل عبر العصور بين المقموعين من ناحية، والقامعين من ناحية مقابلة، كما تصل بين القامعين والمتمردين عليهم، وذلك على نحو يرد عبدالناصر على قيصر الروم، والسادات على كافور، في السلسلة نفسها التى ترد صلاح الدين على سيف الدولة، والزرقاء على الزباء، وشجرة الدر على الخنساء، والمتنبي على أبي نواس، والمسيح على أوزيريس ويوسف، وابن نوح على اسبارتاكوس في المدى الحدي للتشابه الذي يدني بالأطراف إلى حال من الاتحاد. ولا تقتصر الحدَّية التى تنبني بها ثنائيات العالم الشعري على الأقنعة وحدها، فالحدِّية تتخلل كل القصائد، ابتداء من أبسط صور التقابل الدلالي بين ملصقات الحوائط التى تدعو لرؤية الأب الجالس فوق الشجرة والثورة المنتصرة، وكلمة الأب الرزينة ومرح الطفل اللذين يتعارضان كل التعارض مع المسدس المدلى من حزام الخصر في السوق وفي مجالس الشورى، وانتهاء بالزمن الذي يتقاطع فتتأسس بتقاطعه حدية التضاد بين المتقابلات التى تتمزق إلى أبعد مدى ما بين شهادة الميلاد أو شهادة الوفاة. وقس على الطباقات البلاغية التى لا تخلو منها الصور الشعرية تقابلات القافية التى لا تخلو من التضاد بين القوافي المغلقة والقوافي المفتوحة، خصوصا في مدى التقابل الصوتي الذي يعارض ما بين انفساح مدى الصوت أو احتباسه الإيقاعي. ولا توسط بين النقائض الحدية في كل هذه المجالات، فالحدية نفسها في قصائد أمل موقف أخلاقي ومعرفي ووجودي وسياسي وفني في الوقت نفسه. ويتجاوب كل بعد من الأبعاد مع نظيره في الرؤية التى تصوغها القصائد، من حيث هى تجليات لعالم يتراوح بين نقائض لاتلتقي. الحب فيه نقيض مطلق للكره، لا تأكله دوائر الغبار أو ينساه الوعي على رفوف الذاكرة. والصداقة هى الطرف المضاد للعداوة، معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص. والسلطان إما لص أو نصف نبي. والحياة مطلق الحضور في الوجود لأن الموت هو مطلق العدم الذي تتآكل به الليالي. ولذلك يظل الشرق نقيض الغرب في هذا العالم إلى الحد الأقصى الذي لا يبشِّر بإمكان التقاء كليهما في منطقة تجاوز التضاد، أو تحتويه، أو حتى تنقله إلى أفق مغاير كذلك الأفق الذي صاغه أدونيس مثلا في "المسرح والمرايا" بقوله: كان شرق كالطفل يسألُ، والغرب شيخه المعصوم يستصرخُ. بُدِّلَتْ هذه الخريطة، فالكون حريقٌ، والشرق والغرب قبرٌ واحدٌ من رماده ملموم. ويظلُّ القامع نقيضا للمقموع على نحو مطلق في هذا العالم، تماما كالمقموع الذي بقي على إطلاق مقموعيته، بعيدا عن احتمال أن ينطوي على قامع في داخله، ضمن تراُيديا المقتولين القتلة التى تحدث عنها صلاح عبد الصبور في شعره. وبالقدر نفسه، يظل البشر يتحركون، دائما، بين قضيبن لا يلتقيان: الذىن يقولون "نعم" والذين يقولون "لا"، وما بينهما أشبه بما بين "الملك" و"الكتابة" من الحدِّية الصارمة كالسواد الذي هو نقيض البياض بلا تدرجات لونية. ولا تكشف الأبعاد المتجاوبة في هذا العالم عن مدى التنوع في الأفق الحدّي للرؤية فحسب، ومن ثم عن الصلة بين سياق الدلالات المتشابكة في القصائد، وإنما تكشف بالقدر نفسه عن مركزية الذات المختفية وراء الأقنعة التى تصنعها والتوازيات الرمزية التى تقيمها في القصائد وبالقصائد. أقصد إلى تلك الذات التى تدفع كل طرف من أطراف ثنائياتها إلى الحد الأقصى الذي لا يعرف المنطقة الرمادية، والتى تدفع نفسها إلى الحافة الخطرة للخطوط الفاصلة دائما، مقتربة في كل الأحوال من نقطة اللاعودة في مدى الإرادة المستحيلة التى تحرك رؤيتها الحدّية للعالم. هذه الرؤية الحدية رؤية مأسوية بمعنى غير بعيد عن المعنى الذي قصد إليه لوسيان جولدمان في تحديده مفهوم الرؤية المأساوية، خصوصا من حيث هى رؤية الذات التى إما أن تحصل على كل شيء أو ترفض كل شيء، الذات التى تمضي إلى الحد الأقصى في الوجود إلى الدرجة التى ليس بعدها سوى الدمار أو الموت. وأخيراً، التي تعيش دائماً في المدى الأقصى من الحضور، ينتابها دائما الشعور بأنها تشرف على الهوة السحيقة التي تعني نهاية الحياة في إطلاقها أو الدمار الكامل الذي ليس بعده وجود أو حضور. ولأن هذه الذات لا تعرف سوى الإطلاق في كل شيء، خصوصاً في اندفاعها إلى مصيرها الذي تسهم في صنعه، فإنها لا تتخلى عن صفات الإطلاق في مطالبها التي تراها عادلة، ما ظلت تفهم العدل بوصفه تحقق الحد الأقصى من مبدأ الرغبة الذي لابد أن يزيح تماما مبدأ الواقع. والنموذج الذي يجسّد حدّية هذه الرؤية، ويمكن أن نعده مثالا دالا عليها، هو الخطاب الذي يتجاوب به صوت كليب في قناعه الذي صاغته قصيدة "لا تصالح" وصوت ابنته اليمامة في قناعها الموازي، حيث العدل مطلق حتى لو كان مستحيل التحقق. العدل هو "كليب حيا.. لا مزيد". ذلك ما نطقه الأخ "سالم" في مسرحية "الزير سالم" لألفريد فرج التي عرضها المسرح القومي في شهر تشرين الثان نوفمبر من سنة 1967. وهو ما تنطقه اليمامة بحسم قاطع كالسيف في القناع الذي صاغه أمل في السبعينيات التي حملت دعاوى السلام مع العدو الإسرائيلي. وعندما تقول اليمامة: "أبي.. لا مزيد" فإنها ترد على الاستحالة التي أعلنها ألفريد فرج في تقديم مسرحيته، على سبيل حوار النصوص، مؤكدة أن وجه العدالة هو: أن يرجع الشِلْوَ للأصلِ أن يرجع البَعْدُ للقَبْلُ أن ينهض الجسدُ المتمزقُ مكتملَ الظلِّ حتى يعود إلى الله.. متحدا في بهاه؟ وتكرر اليمامة بهذه الأقوال ما سبق أن أوصى به أبوها عمها حين طلب منه أن لا يصالح إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة، والقتيل لطفلته الناظرة. ولكن كيف يعود القتيل فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد؟! وكيف يعود الزمن المطوي ليعكس مساره الذي لا يرجع قط إلى الوراء؟ إن المطلب نفسه يتطلب معجزة يناصبها الزمن العداء، فالزمن يمشي قدما إلي الأمام ولا يرجع إلى الوراء أبدا، وما يفعله الإنسان لا يمكن إلغاؤه، وما لم يفعله الإنسان لا يمكن العودة بالزمن لتداركه. ذلك هو القانون الصارم الحاسم الذي يبطل كل أثر رجعي للعدل في علاقته بالزمن. ولكن ثمة مخرج وضعته السيرة القديمة فيما يقول ألفريد فرج، وهو العودة الرمزية للأب في الابن، الأمير هجرس، ولي الدم وصاحب البيت بعد أبيه، العودة التي ينتهي بها هبوط دولاب الزمن ليبدأ صعوده ما بين النقيضين الأزليين. من الممكن أن يعود كليب حيا، إن لم يكن باللحم والدم الماديين فبمعنى آخر، من خلال ولده. ذلك هو الحل الذي صاغه ألفريد فرج في مسرحيته "الزير سالم". وهو الحل الذي اضطر إليه أمل دنقل في أقوال حرب البسوس الجديدة التي تنتهي مع شارة الزمن القادم المستجاب، وتتوقف مع الهلال الذي يستدير ليصبح هالات نور على كل وجه وباب، أي مع مقدم ابن كليب الذي يبعث مجده وسمته، في الحاضر الذي يستعيد الماضي الزاهر، محققا الائتلاف القومي بين الأخوة الأعداء الذين فرض عليهم التفرق والخصام. وعندئذ، تبدأ شمس الوجود في الشروق، ويعود زمن النهضة إلى مبتداه: كعنقاء قد أحرقت ريشها لتظل الحقيقة أبهى وترجع حلتها- في سنا الشمس أزهى وتفرد أجنحة الغد فوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب