سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شاب كردي يروي ل "الحياة" حكاية عبوره البحر المتوسط في قارب صيد . السفر غير الشرعي عبر الشواطئ اللبنانية ترعاه جهات نافذة مخاطر الابحار كبيرة ... لكن لا حلّ سواه أمام الهاربين
الكلام همساً على حالات الهرب، أو السفر غير الشرعي الذي يتم عبر الشواطئ الشمالية اللبنانية، يحتل قسماً لا بأس به من أحاديث سكان الثغور الساحلية، والبلدات والمدن التي تجاور موانئ غير شرعية في الشمال اللبناني. لا احد يعلم من هم المهربون والمهرَّبون، لكن عمليات السفر تحصل، ويحصل ايضاً ان الكثيرين من ابناء هذه المناطق رسم سيناريوهات منطقية لما يحدث بحسب ما يقولون. اما سبب الحذر في البوح بما يعتقده أو ربما يعرفه الكثيرون من السكان والعاملين في البحر، فهو يقينهم ان هذه العمليات ما كانت لتحصل لولا رعاية ما من جهات نافذة. السكان، على رغم حذرهم رووا حكايات الفرار أو السفر غير الشرعي عبر شاطئ مدينة طرابلس الشمالية مع تفاصيل، هم "يرجّحون أو يعتقدون" في حديثهم عما يحصل، مستبعدين دائماً نسبته الى وقائع وأحداث عاينوها، فبرغم قوة مشهدية ما يروونه، فيقولون مثلاً ان قوارب الصيد الكبيرة التي من المنطقي ان تكون هي من ينقل هؤلاء الهاربين، تعود ملكية معظمها الى صيادين سوريين يأتون من جزيرة أرواد وطرطوس وبانياس واللاذقية، وبعضهم الآخر من بلدات لبنانية على ساحل عكار. ويقولون ايضاً انهم لا يعرفون تفاصيل وافية عن سبل اتصال من يرغب في السفر بهذه الطريقة، ومعظمهم من الاكراد العراقيين والسوريين والاتراك، بالمافيات التي تهيء لهم ذلك. لكنهم يجزمون ان هذه المافيات منظمة جداً، والاتصال بها يتم عبر وسطاء اصبح الراغبون في عبور البحر من دون اوراق يعرفون كيف وأين يجدونهم، ويعرفون ان المبلغ الذي يطلب من عابر البحر المتوسط غير الشرعي عبر الشاطئ اللبناني هو في حدود 1750 دولاراً. والشاطئ الذي يمتد من شمال مرفأ طرابلس مروراً بساحل عكار وصولاً الى العبدة مليء بالموانئ غير الشرعية التي يمكن استعمالها لتهريب هؤلاء. وتسمى بلغة الصيادين الزواريب البحرية. ففي جوار مرفأ طرابلس الى الشمال، ثلاثة أزقة مرفأية. ويؤكد سكان منطقة الميناء في طرابلس انها اكثر قابلية لعمليات التهريب كونها بعدية قليلاً عن أعين خفر السواحل والمراكز الأمنية المنتشرة في محيط المرفأ اما المنافذ البحرية الاخرى التي يرى الأهالي ان التسلل منها الى المياه الاقليمية في غاية السهولة، فهي مرفأ العبدة للصيادين، ومنافذ في محيط مخيم البداوي شمال مدينة طرابلس. وهم يقدمون أوصافاً عدة للمراكب التي تنقل هؤلاء المسافرين، فثمة مراكب كبيرة نسبياً معدة للصيد البعيد، يمكنها تخزين كمية اكبر من الوقود والطعام، وهناك وسائل اخرى رائجة لعبور المياه الاقليمية هي بواخر الشحن التي تقف في عرض البحر بعد ان تكون أفرغت حمولتها في ميناء طرابلس ويُنقل الركاب المهربون اليها عبر قوارب الصيادين نفسها، وتكون مافيات التهريب كما يسميها الشماليون، أجرت اتفاقات مع قباطنة هذه السفن اثناء نزولهم في مرفأ طرابلس وتجولهم في المقاهي المحيطة به، او اثناء زيارات برية يقصد فيها القباطنة المدينة من دون سفنهم، ويجرون اتصالات لتأمين ركاب غير شرعيين في سفن الشحن التي سيأتون بها لاحقاً الى المرفأ. ويلاحظ بعض الطرابلسيين ان كثراً من هؤلاء القباطنة يزورون المدينة في رحلات غير بحرية. ومن المرجح ان سفناً كثيرة لا ترسو في المرفأ اصلاً وانما تأتي الى قبالة الشاطئ الشمالي من مرافئ لبنانية وغير لبنانية مجاورة. وسبب هذا الترجيح ان معظم البواخر التي ترسو في مرفأ طرابلس تتجه الى روسيا ورومانيا لتعود محملة بالحديد والخشب، وهذا الخط هو غير الخط البحري الذي يسلكه الهاربون من ظلمات أوطانهم وتظلمها. ويؤكدون ان المافيات التي تتولى مهمة التهريب تبدأ اتصالها بالذين يرغبون في السفر، قبل مجيئهم الى لبنان، في حين يتولى اللبنانيون منهم، ومعظمهم من سكان القرى الساحلية المحاذية للحدود اللبنانية - السورية وكان معظمهم من مكتومي القيد وحازوا أخيراً جنسيات لبنانية عبور هؤلاء عبر الحدود البرية الى لبنان، إذ يؤمنون اقامتهم ليومين او اكثر ريثما تتهيأ ظروف تسفيرهم. اما عن الرحلة في البحر فيؤكد عاملون في الموانئ ان مخاطر ان يقوم قارب صيد، ولو كبيراً، برحلة من طرابلس الى المرافئ اليونانية وهي المحطة الاولى الدائمة لهذا النوع من الرحلات، كبيرة جداً، وان نسبة تعرضه لحوادث تصل الى 40 في المئة، خصوصاً أن عليه ان يقطع مسافة 670 ميلاً بحرياً أي اكثر من ألف كلم. اما لماذا اختيار طرابلس والشواطئ المحيطة بها لهذا النوع من الرحلات خصوصاً ان السواحل اللبنانية الاخرى اكثر قرباً الى الشاطئ اليوناني، فالكلام على هذا الموضوع مع بعض المتابعين له من ابناء مدينة طرابلس، له محاذيره. "الحياة" اتصلت باحد المسافرين غير الشرعيين عبر مرفأ طرابلس، وهو صحافي كردي، تمكن من الوصول الى الدولة التي رغب في تقديم لجوء سياسي اليها بعدما عبر البحر المتوسط في احد مراكب الصيد، فروى رحلته كاملة وأرفقها بصور فوتوغرافية، وهنا نص الرسالة: "عندما دخلت لبنان بطريقة غير شرعية، كنت حسمت خياري بالاقدام على مغامرة ما تتيح لي الوصول الى احد بلدان اوروبا الغربية لأبدأ حياتي من جديد. في الحقيقة كنت اعلم مقدار الخطورة في ما أعزم القيام به، خصوصاً انني قرأت وشاهدت في وسائل الاعلام الكثير من حوادث غرق السفن والقوارب التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين، الا ان الموت فقد رهبته بالنسبة الي بالمقارنة مع سحر النجاة من نمط الحياة القلِق والمغلَق الذي فرض عليّ في وطني. كان كثيرون من اصدقائي سافروا بالطريقة نفسها، لذلك لم يكن من الصعب الحصول على رقم هاتف احد المهربين أ، عندما اتصلت به اقترح علي اللقاء في احد مقاهي شارع الحمرا. وهناك طلب مني تهيئة مبلغ 1500 دولار وتسليمها قبيل موعد السفر، الذي سيتم تحديده عن طريق الاتصال بي على رقم احد اصدقائي. بعد اسبوعين طلب مني المهرب أ الحضور في الثانية عشرة ظهراً الى المحطة البور حيث سيكون في انتظاري لنسافر الى طرابلس. وصل أ متأخراً وبرفقته اربعة شبان اكراد عراقيين ثم ما لبث ان حجز لنا الى طرابلس، وهي المرة الاولى أسافر الى طرابلس. هناك جلسنا في احد المقاهي. بينما ذهب أ للاتصال. بعد نحو ثلاث ساعات طلب منا أ الصعود الى احد الميكروباصات الذي توقف امام المقهى. كان الميكروباص يحمل عائلة كردية عراقية مؤلفة من زوجين شابين وطفلين صغيرين في الرابعة والثانية. سيقلنا ذلك الميكروباص الى بيت ناء يبعد نحو نصف ساعة، وهو بيت حديث البناء غير مسكون بعد، هناك سأتعرف الى عشرات الناس من جنسيات مختلفة عراقيون، اكراد، سوريون من الاجانب، سيريلانكيون وسنقضي ليلتين من دون اغطية نتمدد على قطع الكرتون، وكان علينا الانتظار حتى نقتص من ثورة البحر ليلة صافية نستطيع الابحار فيها. "في الليلة الثالثة جاءت شاحنات صغيرة لتنقلنا الى الشاطئ. وفي الحقيقة كان علينا ان نركض وسط الطين والرمل مسافة تزيد عن الكيلومتر حتى نصل الى الشاطئ حيث يستقبلنا ثمانية اشخاص وثلاثة قوارب صغيرة لا يزيد طول الواحد منها على مترين، مزودة محركاً صغيراً. "عندما شاهدنا هذه المراكب التي كان عليها ان تنقلنا مسافة تزيد عن 500 متر في البحر الى القارب الكبير، تدحرجت العيون الى الاطفال والنسوة في قلق ودهشة. ولكن لم يكن هناك خيار للتراجع الآن. عندما حان دوري بدت لي تلك المسافة ابدية، خصوصاً ان المحرك الصغير كان يرفض ان يعمل على رغم المحاولات الحثيثة للمرافقين. هدير البحر والموج الذي يضرب القارب بشدة والحمولة الزائدة للقارب الصغير الذي كان يضم سبعة أشخاص ورائحة المازوت التي تنبعث منه كانت تزرع الرعب في نفوس الركاب. عندما وصلنا جميعاً بالسلامة، فاقدين الكثير من اغراضنا في البحر، الى القارب الذي بدا لي عملاقاً في البداية، ظننت ان الخطر الحقيقي زال. الامر المزعج الوحيد كان الازدحام على ظهر المركب. في اليوم التالي كانت المفاجأة بالنسبة إليّ. فالسفينة العملاقة لم تكن الا قارب صيد لا يتجاوز طوله 13 متراً وعرضه بين اربعة وخمسة أمتار. كان عدد الركاب 43 عدا الطاقم المؤلف من اربعة اشخاص. وتوزع الركاب على ثلاث حجر، غرفة القيادة حيث جلس الاطفال والنسوة اضافة الى الطاقم، وحجرتان صغيرتان لا تتجاوز مساحة الواحدة منهما المتر ونصف المتر المربع. تحتوي كل منهما نحو 15 شخصاً، في اعلى غرفة القيادة كانت ثلاثة اعلام مثبتة هي: اللبناني والسوري واليوناني. يستخدم كل منها حسب المياه الاقليمية للدول المعنية. اذا استثنينا دوار البحر والغثيان الذي لم ينج منه احد، والعطل الذي اصاب المحرك الوحيد للسفينة وجعلنا ندرك اننا لا نملك أي مقومات تقنية للقيام بهذه الرحلة، فإن الرحلة كانت هادئة في اول يومين. الا ان المحنة الحقيقية بدأت في اليوم الثالث حينما كانت آخر الاضواء القبرصية تلوح في الخلف لتعلّم حدود اليابسة بالنسبة الينا. فجأة ساد صمت ثقيل، كان رهيباً جداً ثم جاء صوت القبطان ليعلن وجود ثقب في انبوب نقل المازوت الى المحرك واننا لن نستطيع التقدم بهذا الشكل فمن جهة لن يكفينا الوقود الى نهاية الرحلة، ومن جهة اخرى سنجازف بخطر اندلاع حريق على القارب، مما يعني في الحالتين نهاية اكيدة. كان صمت رهيب يجثم على القارب الذي تداعبه الامواج بخفة فيترجح على صفحة الماء. اقترح احدهم سد الثقب بالصابون، وعلى رغم ان الصابون لن يصمد طويلاً الا انه لا يملك بديلاً. كانت لحظات عصيبة ينبغي ان نتقدم باي ثمن حتى لا تسقط الساعات الست والثلاثون الباقية في فراغ. كانت المحاولات الفاشلة للربان في تشغيل المحرك تزرع فينا رعب الموت وتدفع الجميع الى تصرفات شتى. قسم يتجه الى النوم والنسيان وقسم آخر بدأ يتلو الصلوات والادعية في شكل هستيري. بعد ساعات انطلق صوت المحرك من جديد، فعادت الحياة مرة اخرى الى الوجوه. مرّت عشر ساعات اخرى قبل ان تبدأ الموجة الجديدة من الرعب وهي اخطرها. صرخ احد مرافقي القبطان "زيت المحرك يخلط مع الماء والمضخة لا تعمل" ونحن لا نملك زيتاً بديلاً هذا يعني ان المحرك يمكن ان يتوقف ويعطب في اي لحظة. علينا ان نطلب الزيت من باخرة قد نصادفها. وعلى رغم مرور بواخر عدة، الا انها رفضت ان تتوقف وتنظر الى حاجتنا. كان صعباً ان ترى كيف يتجاهل الآخرون موتك امام مرأى عيونهم. كان الدخان الذي يسببه تأثير حرارة المحرك في المازوت المراق في أسفل حجرة المحرك يتصاعد بكثافة الى بقية الحُجر، التي اضطررت الى اغلاق مداخلها بسبب ثورة البحر والريح وبسبب نوبات حادة من السعال والوهن، كنا لعبة فعلية في يد البحر، وهذا ما جعل كلاً منا يتمتم صلواته وادعيته الاخيرة متهيئاً للنهاية المرتقبة في أي لحظة في قلب البحر المتوسط الذي لم نكن سمعنا عنه الا في الجغرافية المدرسية، كان الصراع حقيقياً مع الزمن، عشر ساعات، ثمان، ست، ثلاث، اثنتان الى آخره. كنا نتوقع ان نموت حتى في الدقائق الاخيرة. وفي النهاية سمعنا صوت ارتطام القارب بالشاطئ الصخري، علينا النزول في سرعة ثم سنحاول اغراق القارب لان الطاقم لن يخاطر بحياته في العودة فيه، فيصبحون مثلنا تماماً وسنكتم سرهم عرفاناً وتعاطفاً معهم وسنفقدهم في زحمة شوارع اثينا، وبعد ايام عدة سيكون لزاماً علينا ان نخاطر من جديد لنغادر اليونان التي هي محطة اولى بالنسبة الينا". قد يكون السؤال الذي طرحه هذا الشاب قبل كتابة رسالته عن جدوى البحث والكشف عن هذا النوع من العمليات، خصوصاً انها تشكل حلاً فعلياً لآلاف الشباب والعائلات التي تعاني في اوطانها والهاربة من حروب على انواعها، سؤالاً اخلاقياً يمكن الوقوف عنده. ولكن ما يستحق الكشف عنه حجم الأخطار التي يواجهها هؤلاء في انتقالهم في مراكب غير مؤهلة لهذا النوع من الرحلات، ووصف الشاب الكردي رحلته خير دليل الى ذلك، ويستحق ايضاً استعمال الشاطئ اللبناني واستباحته من دون غيره في المنطقة، في اعمال التهريب وانتهاك حدود المياه الاقليمية للدول، وقفةً اخرى لا يبدو ان للدولة اللبنانية رغبة في وقوفها، خصوصاً ان خبر توقيف باخرة من هذا النوع آتية من مرفأ طرابلساللبناني في المياه الاقليمية القبرصية لم يكن له اي صدى لدى المسؤولين اللبنانيين.