تدوس في طريقها كلّ شيء، القافلة، تمعسه بحديد، بصمت، بعمى. سيل الجماعة جارف. قافلة الجماعة ماعسة. تسحق الناس ومآويهم الضيقة للانفراد قليلاً للسهو او البكاء أو النوم. منطق الجماعة قاتل. لكن الزهرة، الزهرة النحيلة الجميلة النائمة في العتمة، في الركن الصغير المتبقي من حديقة روحنا، كيف ننقذها؟ كيف ننقذ من حديد القافلة نحيلتنا، التي نحتطب دفئاً من سيقانها التي تكاد لا ترى، ومن عطرها الذي لا يشعر به احد استقبالاً لائقاً للنهار. كيف ننقذ زهرة حياتنا الداخلية؟ صغيرتنا، الوحيدة المتبقية لنا، كيف نبقيها لنا؟ كيف نشمّ عطرها؟ انبقيها حية فقط في الذاكرة، ولا نشتم زهراً بل تحنيط عطر؟ هل يمكن الاحتفاظ بالحياة الداخلية في جرف منطق الجماعة الساحق؟ الخاصّ الجميل القليل، الشعلة النائسة في الدهليز المعتم، هل يمكن انقاذ هذا البهاء اليتيم من حديد العامّ المختلط برماده؟ نعصي ونتمرد وننشقّ فننزوي حانين على زهرتنا، ام نركب السيل ونستسلم فننجرف ماعسين وممعوسين؟ الموج يطفي، البحر يغرق... الجزء يحيي، الكلّ يميت. لكن كيف لموجة ان تنفصل عن بحرها وتسكن وحدها على الشاطئ؟ كيف لنقطة ماء منعزلة ان تحتفظ بلؤلؤة الاعماق؟ اسمع، وأنا اكتب الآن، صوت عصفور على شجرة. هل يغني نشيده الداخلي ام يرسل نداء لرفاق؟ يبتهج بفرادة ذاته ام يبحث عن بهجته في الآخرين؟... لكني ايضاً ارى خوفاً وهروباً. ارى طيراناً وابتعاد عصافير عن عصافير. اذا كانت الذات ناقصة في غياب الآخر لماذا تطير حتى الطير عن رفاقها؟ اذا العصافير، الناعمة اللطيفة الخفيفة، تنفصل عن اشباهها الناعمين الخفيفين وتنعزل، فكيف لا ينفصل الممعوس منا عن آلة الجماعة الثقيلة الماعسة؟ الجماعة تلغي الفرد. تقتل بهاء خصوصيته وتسحق جمال ذاته... الآخرون ليسوا جحيمنا فحسب، انهم عدمنا ايضاً. هل هي دعوة الى الخصوصية والفردانية؟ دعوة الى الانشقاق؟ بلى. فالمسحوقون على مدى التاريخ، والمضطهدون والقتلى هم ضحايا الجماعات. اما الجمال القليل، السعادة القليلة، فمن صنع فردانيات متمردة، منشقة، مجنونة ومنعزلة. الجمال يصنعه الفرد، اما الجماعة فتسحقه. السعادة الوحيدة المتاحة، وسط تاريخ من الشقاء، تكمن في العتمة العميقة لأرواح المتمردين المعزولين. في الماضي، قبل الانسحاق تحت حديد "وحدة المفهوم" و"وحدة الهدف" و"وحدة المصير"، كان هناك جمال. جمال الشرود عن المفاهيم، جمال المصير المختلف، جمال غياب الهدف. كان ثمة جمال لا يتيحه شيء غير ذاك الشرود الرائع. لا الايديولوجيات ولا النضالات. جمال ان تكون ممتلئاً بلحظتك المغايرة. ان تكون ممتلئاً بذاتك "الضالّة". هذا الضلال، هذا الضلال، اية روعة! وفي قلب الروعة هذه ضوء الطريق، الوجهة الصحيحة لروحك. حتى لو كنت في صحراء، ستكون ممتلئاً بالعالم. ستكون الأرض ملكك. يجب استرداد المسبيات جميعها، بما فيها الأرض. تجب اعادة ممتلكاتنا الينا. كنا دائماً ودعاء، حتى اننا وهبنا ذاتنا للقراصنة. قراصنة لبسوا يوماً قناع أبطال، ويوماً قناع ملائكة، ويوماً قناع مخصبي الأرض، ويوماً قناع فاتحي بوابة الأبدية. يجب استرداد المسبيات. يجب استرداد وجه الأرض، وجهنا. ولكن، حقاً، هل يمكن استرداد وجه؟ انقاذ زهرة من ركام جرف هادر؟ الاحتفاظ بنقاء النبتة الأولى، بصفاء التربة؟ الذين حاولوا، مات بعضهم في المصحّات، وبعضهم في المنافي، وبعضهم بالمشانق. منهم من أنهى حياته على رصيف، ومن أنهى حياته تحت قطار، ومن انهى حياته بصوت ارتطام عظام او بصوت بندقية او بسكون سمّ. ومن تجمّد سنوات، لا صوت، لا اشارة، لا نظرة. لكن، أليس بينهم أيضاً من ابتسم بصمت، حانياً على غبطة نادرة؟ ومن ضحك عالياً، رافعاً ورقة من زهرة بيده، كناج وحيد من الحرب يرفع ما تبقّى من رايته؟ ماذا نفعل؟ أنمضي مع القافلة مغمضين محنيين مستسلمين فنسحق ونُسحق؟ ام نتمرد وننشقّ فنعزل وننبذ ونباد؟ الا يمكن ان تكون على هذه الطريق عجلات وزهور من دون ان يكون هناك ماعس وممعوس؟ ثمة خلل بالتأكيد. خلل في الكائن، او في التكوين، يجب اصلاحه.