العابرون سريعاً جميلون. لا يتركون ثقل ظلّ. ربما غباراً قليلاً، سرعان ما يختفي. الأكثر جمالاً بيننا، المتخلي عن حضوره. التارك فسحة نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته، صفاء في التراب بمساحته غير المزروعة. الاكثر جمالاً بيننا: الغائب. قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفّة لا تترك للمكان ان يسبيه ولا للوقت ان يذرّيه. مُذَرّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبناً لبيدره ولا قمحاً لحقل سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول. العابر سريعاً كملاك مهاجر. غير تارك اقامة قد تكون مكاناً لخطيئة. غير مقترف خطيئة، غير مقترف اقامة. سريعاً تحت شمس لا تمسّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه اثر عليه. سريعاً بلا اثر ولا إرث ولا ميراث. لم يُقم كفاية كي يتعلم لغة. لم يُقم كي يتشرّب عادات. لا لغة له ولا عادات ولا معلمين ولا تلاميذ. عابر فوق اللغة، فوق العادات، فوق المراتب والاسماء والاقتداء. بلا اسم، فوق النداء والمناداة. وفوق الايماءات، الا ايماءة العبور. وبلا صوت، لأن الصوت ثقلٌ في الهواء. لأن الصوت قد يرتطم بآخر. قد يسحق صوتاً آخر في الفضاء. قد يزعج النسمات. وبلا رغبة. لأن الرغبة اقامة. ثبات. العابرون سريعاً جميلون. لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة. لا يبقون وقتاً يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين. الذين أقاموا طويلاً معنا تركوا بقعاً على قماش ذاكرتنا لا نعرف كيف نمحوها. بقعٌ مؤلمة، اينما كان على المقاعد، بحيث لم يعد يمكننا الجلوس. المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون اثاث بيوتنا الى قطع منهم. بحيث نجلس، اذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم. يسحق المقيمون المقيمين. اما العابرون فلا يسحقون احدا ولا احد يسحقهم. لا يطأون على كائنات ولا يُثقلون خطواً على أرض. حتى الهواء لا يلمحهم غير لحظة. بلا قلق ولا ندم ولا اتباع. ايمان واحد لهم: العبور. المتخلون عن الامكنة والاوطان والآباء والبنين. كاسرو القيد. مخرّبو المشنقة المصنوعة من حديد المكان والزمان والانتماء. انهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالاقامة. يتساقطون بأوطانهم التي صارت وهماً. بانتماءاتهم التي صارت كذباً. بأبوّتهم التي صارت عبئاً. بايماناتهم التي تقتلنا، وتقتلهم، وتقتل الحياة. العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، ان نمجّد عبورها بسرعة، ان نمجّد الانتحار؟! بخفّة خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح. بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء الانطلاق. عابرون سريعاً، كلحظة انقصاف. لهم من العصفور صوت، من الغصن نظرة، من الزهرة شميمٌ خاطف. عصافيرهم للغناء والرحيل، لا للسجن في اقفاص او تأبيدها محنّطة في واجهات. طيورهم الروح المسافرة، لا الريش المقيم. وزهورهم العبق الشارد خارج الاناء. سوى المرتحلين، واللامبالين، والعابثين بالاقامة، والممسوسين، والموتى، مَن كان سيكتشف جمال العبور؟ وأية لحظة تكتشف الحياة اكثر من لحظة الغياب عنها؟ هل لذلك تجب مصادقة لحظة الرحيل اكثر من مصادقة الاقامة؟ وهل، لذلك، على حياتنا ان تكون، فقط، تمريناً على جمال الرحيل؟ اجملنا الراحلون. اجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئاً ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوة واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه. أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم لناس قد يأتون الآن، الى هذه الحفلة. حفلة سخيفة، ورغم ذلك لا يترك المتشبثون بالاقامة مقعداً! لكن لِمَ المقاعد، ما دام المحتفلون يبدأون ضيوفاً وينتهون أعداء؟ لنمضِ إذن، بخفّة، قبل ان تلتهمنا الخناجر، قبل ان نصير طبق الوليمة. لحظة الوصول الى الاحتفال هي كل جمال الاحتفال. وبعدها، سريعاً، يصير الجمالُ هو المغادَرة. الخطوة المغادرة، هي الاجمل دائماً. الراحلون يمتزجون بالنسيم. وإذ نقف نحن، لتشييعهم، فلنشيّع معهم ذكراهم أيضاً. لأن الذكرى تعيق رحيلهم، تعيدهم الى مكانهم، تجعلهم جماداً. الذاكرة تعيق الراغبين في الموت. وتجعل الراغبين في الحياة موتى. فلندفنها إذن. لندفن الذاكرة ونحن نغنّي. انها حفلة سخيفة في اية حال، ولكن بما اننا وصلنا، فلنغنّ ونرقص. ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين. لكن اجملنا سيبقى: الغائب