لغتها بين البساطة والتركيب تتشكّل. البساطة الآتية من رقة الروح وفضاء كونها الخاص. والتركيب المتخلق من تراثها الشخصي المتمثل في تجارب كبيرة في السياسة والحياة. لغة استفادت من بساطة الحياة المصرية التي عاشتها على مدى ثلاثين عاماً، فهي شعرياً ابنة القصيدة العربية المصرية، التي من ابرز سماتها الإحالة الى الروح، والعمق الشفيف، والاستفادة من الشفاهي المتكئ على الاساطير والاعراف والتقاليد والحكايات الشعبية والامثال. وزادت ميسون صقر على ذلك جذورها وهويتها وثقافتها المتعددة المسارات، فجاءت قصيدتها محتشدة بالفقد الذي هو ابرز تجليات الكتابة لديها، ومحملة بالوحدة التي تؤسس لكون موحش فيه الكتلة والفراغ ينفتحان على ذاتيهما، ومن ثم يوسعان لتشكيل الذات في عروجها واسرائها. هذه شاعرة تلاحق فراشات روحها، وتجرب لحظات الاختيار الصعب، وتمنح نفسها حرية المواجهة، وكتابة الصمت، موجهة ماءها ازاء ما تؤشر عليه الذات في بحثها القلق، وشرودها الملح، وخروجها على اطار المواضعات شعرياً وحياتياً. ثمة نور - ليس كمثله نور - في داخل ميسون صقر يطفئ الخارج، ليضىء عتمة الروح، ويستخرج ما تراكم منذ الطفولة الباكرة حيث عاشت الشاعرة احداثاً فوق طاقتها. ومن هنا امتازت ميسون ذات التجربة الكبيرة المركبة في القصيدة التي تكتبها بالاشتغال على الخاص، والاحتفاء بنزوات الذات، والاحتفال بالروح الشفيفة في هزيمتها، وانكساراتها ووصولها الى النقطة الاعلى من اللغة، حيث تكون الانا الشاعرة خارج مدارها المألوف للباطن والخارج معا، ومن ثم تتحقق ما يمكن ان نسميه "صوفية الخَلق". ميسون صقر في اشيائها الصغيرة تخلق عالمها، تجمع المتناثر لتحقق وجودها، وتبني الصورة التي تعرف الوانها، وتنفي ما حدث، لينهتك السر في ابيض الورق، فهي تحلم بالطيران، وتخلق ريحا داخلها لتطير بالاسرار والمخفي الى بيت اللغة الذي هو كالماء لا يحفظ سرا، ولكنه كتاب الكتابة، ومجمع الكشف. اللحظات عند ميسون مثبتة، لا يغربلها الزمن، توقف الوقت كي تمر الكتابة من إبرة اللغة، الذاكرة لديها لها مكان خاص، منه تشتغل الذات وتعيد ترتيب ابجدياته، فيصير عنصراً رئيسياًَ في البناء الشعري، الذي يمنح للشاعر - اي شاعر - فرادته. الشاعرة عبر كتابتها تسقي ان تنوجد في سُزّة السماء، وان تكون في بؤرة الوجود، كأنها طائر شارد يبحث في كينونته، ويسائل الموجودات، ليعرف في اي اين هو حائز. فهي تعيد صياغة المكان، وتأخذ المتاح لتنشئه مكاناً خاصاً يستوعبها، يستوعب شطحاتها بحيث يصير في النهاية لا يحمل صياغة غير صياغتها، التي تتمثل في ابهى صورها: وهي "البساطة". وميسون صقر شاعرة فريدة في احتفائها ب"البيت" ليس لأنها خصصت له ديوانا صدر عام اثنين وتسعين وتسعمائة والف، ولكن لأن البيت له حضور كثيف في جل كتاباتها، وله سطوة طاغية على روحها وذاكرتها ولا شعورها. فهو مأواها ومثواها وملجأها، ومجمع العزلة والوحدة، وذاكرة العائلة، وحافظ الانساب والسلالات، وشاهد على التواريخ وحافظها من وهن الحياة، بحيث يصير بيتاً مقدساً يحوي آيات الكلام التي تخلد وتبقى كأن البيت معادل لسلطة القلب، او هو العاصم من زلازل اختراقات الهوى. ميسون في بيتها الجديد الخاص، تبني بالشعر سلطة تدوم، تكتب فيها تاريخها برائحة الزعفران، لا برائحة الدم، وتزرع الشجرة الابدية التي تشهد تحوّل الروح في مدارجها، وتكون آيتها "كن عاشقاً ومعشوقاً" حسب تعبير الصوفي يونس امره. بيت ميسون لا ينسحب التاريخ منه، ولكنه ينفتح على عوالم شتى، ورؤى وتأويلات عدة، يكون وعياً اخر، ينضاف الى الوعي التاريخي. تمتلك البيت تملؤه بالعاطفة، وتفقده بعد ذلك في لحظة تاريخية، فهي عوّدت روحها الفقد كي تملك ذاتها وحدها في مقابل العالم. والفقد هو احد المحاور الرئيسية في شعر ميسون صقر، فهو - لوحده - يؤسس شعرية خاصة في اطار تجربتها المفتوحة على روحها. ميسون صقر، يداها "محملتان بالعناق" وشهوة التفاصيل الدقيقة، مسكونة "بالسرد على هيئته"، وبيتها الشعري الجديد هو افتتاح لأوركسترا الفيضان وادماء لجُرح. فأناها لا تخفي شيئاً، مفتوحة على الراهن والسري الذي يعادل الكتابة. تستنجد برغباتها لتنجدها من العزلة، تفرغ صوت نحيبها ليكتب القلق سيرته، ترجع قلبها للغتها الاولى، حيث الاساطير موغلة في ذاكرتها. قصيدة ميسون صقر تعلو نحو ذاتها مضيئة وعارفة احوالها وسمواتها وقارئة عوالمها وقاراتها المجهولة. توضىء الماء، وتضوىء الظلمة الكثيفة في الارواح. تسمي نفسها كونا ذا لغات متعددة شفيفة تألفها النفوس وتتواصل معها. ميسون تمنحنا حرية الحركة والتعبير والقراءة الاخرى التأويلية لقصيدتها. فقط معها نغمض العينين ونحلم. في ايقاع موسيقاها خفوت الذات في تجليها وتشظيها في الوقت ذاته، لأن الموسيقى رغبة فينا تكمن. فهي تلمس الصوت بيديها، وتشكل - باعتبارها فنانة تشكيلية قلبها وجسدها وروحها فينفتح كونها علينا ولها. وكلما اضاءت ميسون صقر مفتاح ضوئها كتبت جديداً يضاف الى ما أنتجته. * شاعر مصري، والكلمة هذه كان ألقاها في "النادي الثقافي الطاهر الحداد" في تونس مقدماً الشاعرة ميسون صقر للجمهور التونسي