ماذا ينتج تعدد ثقافات، خصوصاً لبنانية وشرقية وعربية وأنغلوفونية، وتعدد اهتمامات خصوصاً سياسي وأكاديمي وفكري واجتماعي وفني؟ "سمع". قد يكون "سمع" أفضل تعبير عما يجسده اللبناني بول سالم الأستاذ الجامعي وصاحب مركز الدراسات وابن وزير الخارجية السابق إيلي سالم والأميركي الجنسية أيضاً وقد اكتسبها من أمه، والمتنقل بين مدارس بيروت وجامعاتها وجامعات أميركية والمتقن لغات عدة والغارق الآن في التعرف الى أسرار الحضارات، والموسيقي هواية وتعلماً وعزفاً على البيانو والكيبورد والبزق والغيتار وعدد من الآلات الإيقاعية ومبرمج الكومبيوتر ... وهو لمّا يبلغ الأربعين. "سمع" باكورته الفنية، تأليفاً وغناء وعزفاً، صدر أخيراً بإنتاج مشترك مع "صوت الشرق" عبدالله شاهين وأولاده في بيروت، متضمناً 13 مقطوعة لا تتجاوز أطولها الدقائق السبع. "صعب علي إيجاد عنوان لعملي الأول فتركت القرار للمستمع ولرد فعله ... وكان سمع الذي أردته محاولة التقاء ومواجهة بين الشرق والغرب موسيقياً وثقافياً"، كما يقول سالم ل"الحياة". التجارب في حقل الجمع بين الشرقي والغربي كثيرة، وسبق سالم إليها كثيرون. ولكن "لا أعرف هل عملي هذا وسيلة لتحديث الموسيقى الشرقية أو تناغم مع الموسيقى عموماً وتكامل فيها" على ما يوضح، مشيراً الى أنه "حافظ على روحية الشرقي وروحية الغربي من دون تزييف أو خروج على الشخصية، ما دام العمل يعبر في شكل إنساني صحيح وشفاف معاً عما أريده". ويشبه سالم "سمعه" ببيروت "المدينةالشرقية المنفتحة على أنماط ولغات ومشاعر من مشارب متنوعة". ويقول أنه عندما يعزف يؤدي كل نمط موسيقي بروحيته. ويعترف بتأثره بزياد رحباني وإعجابه به، وخصوصاً "بطريقته في التعبير المباشر الصريح من دون تصنع"، وبتأثره أيضاً بالموسيقى الكلاسيكية والأميركية اللاتينية، وخصوصاً البرازيلية، والجاز "حيث ثمة مشاعر تطاول أي إنسان، فتجعله يدخل الى ذاته وتفتح فيه خلايا مغلقة". وعلى رغم انشغالاته الكثيرة، وجد سالم وقتاً لتنفيذ العمل الذي استغرق منه نحو سنتين. "في البداية، بدا لي الأمر تجربة وتسلية، ثم شجعني أصدقاء ومعارف على إنجازه، وجميعنا على يقين أن ليس الهدف تجارياً". ويرى سالم أن موسيقاه، وإن كان بعض مقطوعاته مستوحى من أعمال كبار أنطونيو كارلوس جوبيم وآني لينوكس وهربي هانكوك تعبر عن شخصية جيل أو طبقة تعيش الثقافتين العربية والغربية، تختلف عن شخصية من هم في مجتمع صاف. ويقول "عندما ألَّفت نسيت مبادئ التأليف والتقنيات الموسيقية، لأخرج ما أحس به كما هو وأعبر عنه كي يصل الى المتلقي من دون استئذان". هذا في الموسيقى. أما غناءً فصوت سالم لا يدعي طرباً أو غناء. وهدفه الأداء لإيصال أفكار كتبها شعراً، أو ما يشبه الشعر، أو أفكار أعجب بها من الشاعر محمد عبدالله أو شاركه في كتابتها. وفي أدائه غير المتكلف يغيب التكرار، ويطلق العنان للحن يلتهم الكلمات، كأنه في سبق مع شيء ما ليبلغ والسامع سريعاً محطة هي الأخيرة. وقد يكون للمفهوم الثقافي والمجتمعي الأميركي الإستهلاكي السريع غير المتسرع تأثير في شكل أغنية سالم. تبقى الرسالة السياسية. فهي واضحة في عناوين المقطوعات أو الأغنيات، ف"صلاة عن أرواح الغائبين" ارتجلها سالم وعازف الكمان جهاد عقل في استوديو التسجيل، عندما علم سالم أن عقل كان حاضراً، وهو صغير، في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 و"شباط" مقطوعة تختصر ربما ما يرمي اليه بول ولعلها هو. و"بغداد" مدينة يليق بها الإسم الآخر للمقطوعة "رقصة الحياة" ... مدينة حياة هي. و"من زمان" أغنية عاطفية عن "حب هو آخر صوت وضوء" في قلب سالم. و"قصة تنين" عتاب بين زوجين ودعوة الى طول البال، ينتهي بجريمة، وقد تكون الجريمة والجثة وحدهما "الرابحتين" لأنهما وجدتا مكاناً لهما في أغنية. وفي "عودة الى البداية" يقسّم سالم على البزق، تلك الآلة التي لا أسس موحدة لصنعها ولا أكاديمية لتعلم العزف عليها، وروعتها أنها تبقى بنت العفوية. أما "الهلال الخصيب" المقطوعة الموسيقية ف"عجيب" في نظر سالم وقد صهر فيها الموروث الموسيقي الذي يتشابه بين مناطقه أحياناً ويختلف أحياناً أخرى. و"بلاكِ" عن تلك المرأة التي شدهت المغني بمرورها أمامه حتى رأى في جسدها بلاده. و"شو قال العاج" خروج على المألوف في محاكاة السمراء أو الشقراء ... فهنا محاكاة للبيضاء. و"هجرة الريف الى المدينة" و"سفر برلك" محلي و"ما أطول بالك" شعر عبدالله عناوين لحال سياسية واجتماعية يعبر عنها سالم بألم، تسعفه فيه مقامات الجاز وأحياناً "البلوز". وكرفض للحرب في لبنان التي حرمت سالم وأبناء جيله سنوات شبابهم ودفنت أحلاماً كثيرة، كانت "تنذكر ما تنعاد"، وهي توليفة موسيقية يستحضر فيها سالم صوت الإعلامي اللبناني الراحل شريف الأخوي الذي اشتهر بعبارة "سالكة وآمنة" من الإذاعة اللبنانية في "حرب السنتين"، خلال تقريره اليومي عن حال الطرق في بيروت والمناطق. بول سالم في "سمع" يعزف هموماً كثيرة، ويفرغ في أغنياته تجربة غنية، ويفسح في المجال رحباً أمام أحلام وأمنيات حملها من أيام الشباب الأولى، وما زال أوان تحقيقها ينتظر غداً أفضل.