فازت رواية "النمل الأبيض" بجائزة الدولة التشجيعية في الرواية لعام 1998. وهي الرواية الخامسة لعبدالوهاب الأسواني، الذي صدر له من قبل روايات: "سلمى الأسوانية" 1970، "وهبت العاصفة" 1972، "اللسان المر" 1981، "أخبار الدراويش" 1990، بالإضافة الى مجموعتين قصصيتين هما: "مملكة المطارحات الغرامية" 1983 و"للقمر وجهان" 1986. تتناول الرواية فترة حرجة من فترات المجتمع المصري أثناء "التحوّل" نحو الانفتاح الاقتصادي أو الاستهلاكي في أعقاب حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، اما اطارها المكاني ففي قرية صغيرة قرب مركز كوم امبو في اقصى جنوب الصعيد. تتكون الرواية من اثني عشر فصلاً، وهي ذات بناء فني شامخ، تتضافر فيه بعض المحاور، بدءاً من "مفتتح" قوي عاصف يمثل مركز ثقل للرواية، إضافة الى "توظيف للحكاية الشعبية"، للزناتي خليفة من خلال شخصية شيخ ضرير وحفيده، مع تصعيد "محكم" محسوب للأحداث. ولكن "الجديد" والجميل في الرواية، هو "البناء بالتكامل" بين حدثين متجاورين كلاهما واقعي لكن أحدهما يشكل "رمزاً" وانعكاساً وصدى للآخر. وقد تم ذلك على مستويين شمل أولهما الرواية ككل وصار إطاراً لها، واحتوى ثانيهما على وقائع "أو مفردات" بسيطة متناثرة داخل الرواية! تبدأ الرواية من منطلق قوي رهيب، حين يذهب "عامر" مدرس الابتدائي الشاب، المتزوج حديثاً من زميلته في المدرسة نفسها وجارته ورفيقة طفولته "الجازية"، وهو في الوقت ذاته بطل الرواية وراويها، لمقابلة "توفيق بك الزعيم" في قصره بناءً على طلبه، فإذا بالبك يفتح له أبواب الأغراء بعمل جديد مع استعداد لتقديم خمسة أفدنة، لينتقل - بعد ذلك - الى موضوع إبنه الأصغر اسماعيل، الذي يعاني من مرض نفسي، لا حل له إلا بالزواج بمن يحب، وهي "الجازية" زوجة عامر. أي أن المطلوب من عامر أن يطلق زوجته، حتى يتزوجها ابن الباشا! بطبيعة الحال، خرج الفتى من القصر غير مصدق ما جرى، محاولاً أن يتفهم مبرراته: "هل لجرأة توفيق بك، في حديثه معه، علاقة بعودة الباشوات، والبكوات، في هذه السنوات الأخيرة؟.. ربما. فمنذ حرب تشرين الأول اكتوبر حتى الآن اعتدنا أن نرى أشياء غاية في الغرابة.. أناساً يصعدون وآخرون يختفون دون أن نعرف كيف صعد هؤلاء ولا لماذا اختفى أولئك؟". ثم سرعان ما يتلمس السند والأمان في عشيرته: "نحن مجتمع قبلي - متخلف كما يقولون - لكن عشيرة المرء تغضب لغضبه". هكذا يُسرّ الابن بما حدث لأبيه "عبد الولي" الصموت، الحمول، مريض القلب، ليمضيا إلى "عمي عرابي"، الذي رأى أن يقابلوا العمدة، الشخصية المناوئة لتوفيق بك، لأنه لولا أن الانكليز استولوا على أراضي جده الذي لم يوافقهم على احتلال السودان، واعطوها لحلمي باشا الزعيم جد توفيق بك، الذي وافقهم، لانقلب الحال. فطلب منهم العمدة أن يقدموا بلاغاً رسمياً حتى يفضحه، لكن أبو عامر يرفض، حتى "لا يقول الناس أنه استهان بنا والموت أهون من هذا"، وانتهى الأمر الى قفل الموضوع، لأن توفيق بك لا يستطيع التحرش بهم علناً، اعتماداً على أن رجال قبيلته "الزوايدة" لن يوافقوه على ما يريد. هذا الفعل القوي يواكبه فعل آخر، وإن بدا صغيراً، واهناً، في فصل الافتتاح، وظهر في بيت عامر، ذي الجدران الطينية، وهو يناور عروسه ويحاول إبعاد فكرها عمّا حدث في بيت توفيق بك: "رفعت رأسي أحدّق في السقف لعلي أتذكر شيئاً أشغلها به، لاحظت أن أحد عروق الخشب التي تحمل السقف، ظهرت به بقعة طينية يابسة"، فلما سألها أقرّت أنها لا تعرف، فتساءل "ما الذي جاء بهذا الطين الى هنا؟". هنا فعلان، كلاهما "واقعي"، برزا فجأة الى حيز الوجود، الأول كبير ضخم رهيب، والثاني ضئيل صغير قميء: الأول نتاج متعمد لقوى عليا تسيطر في المجتمع، والثاني نتاج طفيلي لقوى غير محسوسة" الأول معنوي، غير منطقي، الثاني مادي لافت للنظر" الأول خارجي يهز الوجدان، والفكر بعنف، والثاني داخلي يبدو كانعكاس ورمز وصدى للأول، بما يعمّق التأثير ويدعمه. إنقضاء الزمن سينقضي بعد ذلك "زمن" طويل خلال أحد عشر فصلاً في الرواية حتى تتكامل وقائعها في الفصل الأخير، بعد أن تكون كل الأحداث الخارجية قد آتت أكلها، وظهر الفساد واستشرى، وغيرّت المادة من ذمم البشر، وتدخلت في المشاعر، وقلبت موازين القيم، وإذا عامر المدرس يؤوب الى بيته خاسراً مهزوماً بعد فقد الزوجة، الأب، الأخ، والعشيقة، وإذا هو وسط هذيانه المحموم ينظر الى سقف البيت ويتساءل "لماذا انتشر الطين هكذا في الشقق؟"، فهلل البعض لصحوته، لكن "بشير" صوت الجماعة ولسان الحق يصرخ: - "كارثة".. قال عمي عرابي: - هذه "أرضه" - أرضه؟.. قصدك النمل الأبيض؟". فتحسس عمه عرابي عروق الخشب بخيزرانته وقال "العروق كلها مضروبة لو لمسها أحد سيسقط السقف كله"، وهو ما أكده بشير أيضا بقوله "كلها تالفة.. لا بد من هدم السقف كله وإلا امتد الوباء الى جميع بيوت النجع". فنهض عامر من سريره، وتعاونوا في إخراج الأثاث الى فناء البيت "وجاءوا بسلم خشبي اعتلاه الصغار من أولاد وبنات في سن الخامسة عشرة. دفعوا السقف بجذوع الحطب، تهاوت العروق كأنها تراب مخلوط بدقيق، ظهرت السماء صريحة تتلألأ فيها النجوم". وجاءوا بصفيحة كيروسين، صبوها فوقها واشعلوا عود ثقاب، فتوهجت الوجوه على الضوء! هكذا يفسر البناء بالتكامل. بدأ الأمر "برغبة" رهيبة خبيثة، تقابلها لطخة "طينية" غير منطقية على عروق خشب السقف كانعكاس ورمز وصدى يُبرز ويعمّق ويدعم المعنى. وبمضي الزمن حدث "التحوّل". تحوّلت الرغبة الرهيبة الى "واقع" فاق الخيال، حين لم يكن "توفيق بك" يريد "الجازية" لابنه المريض، بل كان يرغبها لنفسه. وبعد أن قضى وطره منها طلقها لتتزوج من فاسد آخر، وبالمقابل تحوّلت لطخة الطين السوداء على السقف الى أرض طينية بواسطة النمل الأبيض المعادل للفساد، الذي ينخر في الخفاء كالوباء، في دعامات الاسقف، حتى تتحول الى هشيم تذروه الرياح، فإذا ساكني البيوت الطينية في لحظة خاطفة مكشوفين، يلتحفون بالسماء، وإذا هو يستشري في هدوء وصمت، ليمتد خطره الى بقية بيوت النجع. أمامنا واقعتان تكمل كل منهما الأخرى، الرغبات الخبيثة كالإثرة والأنانية والنهم الى التملك والرغبة في الاستحواذ على ما يخص الآخرين، التي تولّدها رياح النظم الاقتصادية الفاشلة، والتي تبدو كلطخة تلوث وجه حياتنا، فإذا ظللنا صامتين، متفرجين مستسلمين لما تجري به المقادير، فإن اللطخة ستتسع في الخفاء دون أن ندري. اما في الوقت الذي نقضيه متابعين ما يجري في الخارج من تحولات فيكون هناك تحول أكثر بشاعة، يحدث في داخلنا، وهو الخطر الكامن الذي يتحين الفرصة المناسبة لينقض علينا، فإذا الكل عبث وقبض الريح! مستوى آخر بدا في الرواية مستوى آخر للبناء بالتكامل على مستوى المفردات أو الوقائع البسيطة، خلال مرحلة التحوّل. ومثال ذلك أنه بعد موت الأخ الأصغر زاهر، اثر مرض مفاجئ وبعد اتهام ملفق باطل، زهد الأب في كل شيء، واعتكف على سجادة الصلاة، وأسلم أرضه الى شقيقه حجازي ليزرعها الى جانب أرضه، فضلاً عن أرض ثالثة يزرعها بالمشاركة. كانت تلك هي الواقعة الأولى، التي سرعان ما يتبعها مباشرة بواقعة أخرى مواكبة، "وفي السماء كان أحد الصقور يفرد جناحيه ويطير على مستوى منخفض لا يرتفع كثيراً عن مستوى آل بشير، أنقض فجأة على عصفور أخضر، وطار به بعيداً". هنا واقعتان متتابعتان، في الأولى رجل يزرع أرضه وأرض أخيه وأرض ثالثة بالمشاركة، بما يعكس نهماً للاستحواذ، وهو ما وجد صداه في الواقعة الأخرى التي تجري في السماء، وصقر جارح ينقض على عصفور أخضر. الحادثتان وقعتا فعلاً، جاء الربط بينهما موفقاً، فإذا الثانية انعكاس للأولى، ورمز لها، أو هي نذير ونبوءة بما سيحدث بعد ذلك. وهو ما تحقق فعلاً حين انتبه الفتى أخيراً واستقال من الوظيفة التي ألحقوه بها، بعد أن فقد كل شيء وقرر أن يعود الى أرضه ليعمل بها. وكان المفروض أن عمه، الأخ الشقيق لأبيه تولى مسؤوليتها خلال أزمة أخيه ليعاون أسرته بعد وفاته. فلما طلبها منه، حاول العمّ أن يماطل، ولمّا لم يفلح انقض عليه كصقر جارح، تماما كما فعل مع الأرض، وانظر الى ردّه "المرحوم والدك أجر لي الأرض قبل وفاته"، و"كان يوقع لي على ايصالات المبالغ الايجارية ثم امتطى حمارته واتجه الى الحقول وتركني واقفاً أحملق في ظهره!". بدا كل شيء في الرواية مرتباً منظماً محكماً، جارياً في يسر وسهولة من المبتدأ الى المنتهى، ليقود الى ذروة الختام المأساوي الأخيرة. وربما كان عبدالوهاب الأسواني معنيّ بتصوير أبعاد مأساة التحول الخارجي الذي يحدث في المجتمع ككل، فلم يول اهتمامه الى التحولات الداخلية في أعماق الأشخاص بالدرجة نفسها. انظر الى بطل الرواية المدرس الشاب، الذي هو على مدار الرواية بأكملها شخصية ساذجة، باهتة، لا لون لها، تثير أكثر من سؤال.. كيف انحرف بسهولة ويسر الى الاغراء الذي رسموه له في شخصية "شوشو"، المرأة الأخرى التي رأها في بيت أحد اصحاب العمل الجديد، الذي كان يحضره الى بيته ثم يتركه لفترة، بحجة إنجاز بعض أعماله، حتى يتيح لشوشو، أو الفخ الذي أعدّوه له، أن تنفرد به كما يحدث في الأفلام العربية الساذجة للإيقاع بالبطل، وليس في واقع الصعيد!"، والسؤال: كيف انحرف الفتى بسهولة ويسر الى امرأة أخرى، وهو ما زال في نهاية شهر عسل مع محبوبة وجارة قديمة، تعتبر ملكة جمال النجع، إضافة الى الحظر الذي يتهدده بضياعها أو سلبها منه، ولا ننسى أيضاً أنه ابن مجتمع مغلق مستوعب للتقاليد فاهم ومنفذ لها؟! ومن ناحية أخرى لماذا لم يتراجع، حين دقّت زوجته نذير الخطر، وأخبرته أنها تعرف حكاية شوشو؟! ومن ناحية ثالثة، ورغم العلاقة الحميمة التي ربطتهما وتُوّجت بالزواج، والتي يحسده عليها كثيرون، ورغم الخطر الذي يحيق بتلك العلاقة، كيف يفرّط في زوجته بالطلاق بسهولة إثر انفعال لحظي؟