كان الفيلسوف روسو عاشقاً للطبيعة ولريفها بالتحديد. حيث نشأته الأولى وجولاته ونزهاته بين الأشجار ورائحة الأرض بصوت الأغصان تتكسر من وقع قدميه. فتغمره سعادة تملأ روحه، وتتركه مقبلاً على الحياة بثقة وانشراح. إنها الفترة العمرية في بداية شبابه، التي لم يُهمل ذكرها في تلك الصفحات من الاعترافات، حتى إنه اعترف بندمه على عدم تدوين يومياته في حينها. وفي ذلك يقول: «إن المشي يبعث النشاط والحياة في روحي، إذ لا بد لجسمي من أن يتحرك، حتى تنشط أحكامي على الأشياء. فمنظر الريف الجميل، وتتابع الصور والهواء الطلق، والصحة بالشهية الجيدة التي يمنحني إياها المشي. جميعها تتضافر على تحرير روحي، ومنح الشجاعة لفكري. فتلقي بي بصورة أو أخرى في خضم الكائنات المتخيَلة، حيث يمكنني أن أجتمع بها، وأختار من بينها، وألائم بينها وبين ما تخيلتها عليه بلا خوف ولا وجل، وعندما أتوقف عن السير لا يتجه تفكيري إلاّ إلى غذاء شهي، وعند استئناف تجوالي لا أفكر إلاّ في جمال السير». علاقة الإنسان بالأرض وبالطين قديمة بقدم الإنسان الأول. فمن الطين سوّانا الخالق وإلى الطين سنعود إليه. وحلّل العلماء جسد الإنسان، فوجدوا أنه مكوّن من 16 عنصراً. في مقدمها الأوكسجين وفي منتهاها المغنيسيوم. فماذا عن تكوينات القشرة الأرضية؟ هي أيضاً من العناصر ذاتها. فمكونات الطين هي مكونات الجسد البشري نفسه. لذلك ترانا نحن إلى الطين بشوق لا يطفئه سوى اتصالنا به. فإذا ضبطتنا ملتصقين مدة لا بأس بها بعلب الأسمنت التي صنعها الإنسان وتفنّن في تسميتها بيوتاً وقصوراً وناطحات سحاب، فاعلم أن رئتك لا يصلها الأوكسجين جيداً، ذلك أنها لم تتنفس من رئة الطين ورائحته وهوائه. حتى فراعنة مصر كانوا يهجرون أقبية الأهرامات، ويعودون بجموعهم إلى الطين، حيث الاعتقاد بأنه المكون لخلطة المومياء السحرية. ألم يتخذوا الآجر (طين يعجن فيحرق للبناء) في النهاية سقوفاً لقبورهم؟ ومن وحشية المستعمر «الكاتلوني» يقول القائد الإسباني: «ونحن نجز رقاب هذا الشعب كانت عيونهم الصامتة ترنو إلى شيئين: ضوء الشمس وأكواخ الطين. ولا أعرف لماذا قبل لحظة الذبح التي يتمتع بها جنودي، كان المقاتل البدائي يتشبث بإمساك الأرض بقوة. لقد شاهدت كومة من الجثث وفي أيديهم بقايا الطين ناصعة كضوء الشمس». مشهد سريالي حزين، ولكنه يلخص بقبضة الطين الممزوجة بالدم وبعصب الحياة الأخير أن الإنسان لا شيء سوى حفنة من تراب. وعلى هذا التراب دارت معاركه ونزاعاته. وليس هناك من لقطة فنية تختزنها الذاكرة بأقوى من رؤية الممثل القدير الراحل محمود المليجي في فيلم «الأرض» عن رواية للشرقاوي، وهو يحفر بأصابعه الطين، يحاول أن يتمسك به قبل أن ينتزعه الجلادون عنوة منه. فيموت ويمتزج دمه بطينه الذي عاش من أجله، ومات بشرف من أجله. ليس للطين وطن أو أرض. هو موجود حيث توافر الماء والتراب. الطين الذي يحلله المفسرون بوصفهم: إذا أخذنا التراب، ثم أضفنا إليه الماء يصبح طيناً. فإذا تركناه لتتفاعل عناصره تحول إلى صلصال. وتلك هي أطوار خلق الإنسان. ومن بدء الخليقة إلى مراحل فن العمار الطيني بوادي حضرموت كمثال حاضر في ذاكرة التاريخ. بنقوش صور الحيوانات وأيام الانتصارات والهزائم ورسومات الآلهة والأصنام. فجاء الإسلام فنقحها بتأثيراته في المنابر والقباب بأشكالها الهندسية. فلا تتباهى المدن العربية بتطورها على حساب الحي القديم والأبنية التراثية فيها. بل إن مدينة تحكمها غابة من العمارات الشاهقة بلا ديرة وبلا أبنية الطين الأولى هي مدينة بلا روح وبلا تاريخ. الجرعات العالية من الحضارة العصرية تحتاج ليتوازن الإنسان إلى جرعات مقابلة لها من دنيا البساطة في هيئتها الأولى، حيث المزارع والحقول... حيث الشطآن والبحور... حيث الصحراء والنجوم... حيث المساكن من عبق البيئة وجوها. فلا معنى أن يشيّد بيت المزرعة كما بيت المدينة. فلكل غرضه وخياله. وحين نساوي بين الأغراض والأخيلة، تختفي النكهة والروح معها. إن للأرض حكمة مقدسة وهي باقية ما شاء الخالق لها البقاء. أمّا الإنسان فهو مجرد عابر طريق لا يحسن آداب العبور، فلم يستحق الأرض التي هو عليها. كاتبة سعودية [email protected]